خير ما يكتسبه الإنسان من صداقات أن يتصل حبله بالصالحين من عباد الله، فهم الذين يُقتدى بهم، وهم الذين يرشدون إلى أسلم طريق إلى الله بفعلهم لا بأقوالهم فقط، لذا فخير ما اكتسبت من صداقات كانت محبة أشياخ لي، عرفت صلاحهم عن قرب، فكنت لهم المحب الصادق المحبة وهم أحياء، والوفي لهم بعد الممات، أتذكرهم بإحسان، فيلهج لساني بالدعاء لهم، جزاء ما أرشدوني إليه من خير، وقبل ما يقارب ربع قرن عملت مدرسًا ورئيس قسم في كلية إعداد المعلمين بمكة المكرمة، مع نخبة من الزملاء حظيت بحبهم، وكان من بينهم أحد الصالحين، الذي نشأت بيني وبينه صداقة محبة في الله، فقد لحظت منذ أيامه الأولى معنا في الكلية أنه من أهل الله، الذي مهد له الطريق به ربه، فألهمه من القول والعمل ما يرضيه، أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله، فهو الأعلم بي وبه، فقد كان الشيخ الجليل محمد محمد علي الشامي، العالم الأزهري المتخصص في الحديث والقراءات معًا، ممن ارتاحت اليه نفسي، جمعني به حب في الله خالص، فما مضى زمن يسير حتى كانت الصلة بيننا تتطور، حتى تبلغ حدًّا من الإخاء يفوق إخاء الدم والنسب، فتعرفت أسرتانا على بعضهما، وأصبح أولادنا إخوة متحابين، ومضت بنا الأيام حتى كنا القرناء الذين لا يفترقون، وزدنا الصلة توثيقًا، فتزوج ابني ابنته، فكان لي منها الأحفاد الذين يملأون عليّ الحياة بزينتهم، يحفظها الله لي ويحفظهم، ولما بلغ السن الذي يتقاعد فيه الموظفون ارتحل إلى بلده، وهو مني في القلب مقيم، أراه كلما ذهبت إلى تلك الديار، حتى جاءني مساء الثلاثاء 24/7/1431ه خبر وفاته، بعد أن عانى أشهرًا من مرض عضال، فامتلأت نفسي حزنًا لفراقه، ومثله هو من يحزن عند فراقه، رحم الله أبا رجاء فقد كان الرجل الصالح، الذي نفع مثلي بصلاحه، فقد كان نجمًا يقتدى به في سلوك الطريق المؤدي إلى رضا الله، فقد عرفته مقبلاً على طاعة الله، لا يشغله عنها من دنياه شيء عظم أو حقر، قارئا للقرآن، تاليًا آياته، آناء الليل وأطراف النهار، عابدًا لله خاشعًا، ذاكرًا له رطب اللسان بذكره، حسن الظن بخلق الله، محبًا لمن أحب الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقنعه من حطام الدنيا القليل الذي يبلغه، ما كان يسعى للوصول إليه، والذي أظنه اليوم قد وصل إليه مرتاحًا كما كان يرغب، فدنياه كانت ممرًا حرص ألا تشوبه شائبة، إنما همّه أن يتزود منها لدار مقره، الذي هو الغاية التي يعمل من أجل بلوغها، ما رأيته قط في خصومة مع أحد، غريبًا أو قريبًا، وما سمعته قط يعنف في اللفظ أو الفعل ضد أحد، غريب أو قريب، حتى أولئك الذين آذوه، ديدنه عمل صالح يرضي ربه فيحرص عليه، وصفحة بيضاء نقية يبديها للناس، وهي في واقع الأمر حقيقة حياته، التي لم نعرف عنه غيرها، كان مقبلاً على تنمية حصيلته العلمية في تخصصيه، قريبًا من تلاميذه، مخلصًا لله في تعليمهم، ما سمعت من تلميذ له قط شكوى منه، أو احتجاجًا على طريقته في التعليم، بل كلهم له محب، مقبل عليه، مطلق الثقة به، واليوم وقد غادرنا إلى مرحلة لاحقة في حياته، نرجو له فيها أن يسعد بإذن الله بعظيم ثواب ربه، لما عمل وداوم عليه من أعمال الطاعة، لا يرجو بها سوى رضا الله، والأمن في آخرته، فإن عيوننا تمتلأ بالدمع حزنًا لفراقه فهذا الفراق يحزننا أشد الحزن، لأنه يحرمنا صحبته، ما بقى لنا من عمر، ولكنا لا نقول إلاّ ما يرضي ربنا، هكذا علمنا سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولن ننسى ما حيينا حبيبنا الذي حزنا لفراقه، ندعو له ونذكره عند كل عمل نقوم به رضا لربنا، كان له الفضل في إرشادنا إليه، فرحمك الله أبا رجاء رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، في قرب وصحبة لمن أحببت سيدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وصحبه ومن اتبع هداهم، وألحقنا الله بكم وبهم معفوًا عنا مغفورًا لنا، غير خزايا ولا مفتونين، وألهم أبناءك وبناتك وإخوتك الصبر على ما حل بهم بفقدك، وهو عظيم ولا شك، وها هي أيامنا بعدك وئيدة نتذكر فيها كل لحظة ما كان يصدر عنك من خير، كنت دائمًا توفق إليه وأنت تسعى لرضا ربك، وما قلنا عنك إلاّ ما عرفنا، وإنا لنرجو أن يكون لك عند ربك خير ممّا ظننا أنك تستحقه، فهو العفو الكريم، المحب للعفو، الذي يعفو عن عبده إذا أذنب، ويجزل له العطاء إذا أحسن، ونسأله العفو عنا إذا صرنا إلى ما صرت إليه، إنه سميع مجيب.