بنى الدكتور الفاضل عبد العزيز الحربي تعقيبه المنشور في عدد يوم الجمعة 16/5/1431ه الّذي خصّ به بعض المعقبين على مواجهات الشيخ الظاهريّ، على دعائم أربع: المديح والنّقد لشيخه؛ والوعيد والاتّهام لمخالفيه. ففي ساحة المديح تحرّك الدكتور عبدالعزيز بنشاط زائد، وسرعة مذهلة، غطّى بها جميع أجزائها؛ ولم يترك له من منفذ إلاّ إلى ساحة أخرى مقابلة، أسأل الله أن لا تحوجه الأيام إليها؛ لأنّه إذا امتلأت دائرة المدح بالمديح، خشينا أن يُخرج إلى غيرها فتمتلئ بغيره. ها هو رغم أخذه على شيخه الإفراط في الرضا والغضب يقول: "شيخنا العلامة، البارع، أبو عبدالرحمن محمد بن عمر بن عقيل، الظّاهريّ مذهبًا، الخزرجيّ نسبًا، الشّقراويّ ولادةً، الرّياضيّ دارًا، الشّافعيّ أصولاً، الحنبليّ معتقدًا، الظّاهريّ منهجًا، الجاحظيّ تفنّنًا، الرّشيديّ فلسفةً، الفرّائيّ أسلوبًا، المسكيّ خلقًا، السّموأليّ وفاءً، النّسميّ رقةً، الزّبرقانيّ سهرًا، ظاهرة علميّة فكريّة أدبيّة نادرة". وقد وقفت عند عبارتي: "الظّاهريّ مذهبًا" و"الظّاهريّ منهجًا"، فشعرت أن الدكتور عبدالعزيز يريد أن يقول: إن حارت بك الظّاهريّة يا ابن عقيل مذهبًا، كفاك منهجك الظّاهريّ الذّي هو منهج أهل الاسلام قاطبة؛ فأنت في مأمن من أيّ نقد. ولا ريب أن على هذا النّوع من الفكر ما عليه ممّا سنبيّنه في خاتمة هذا المقال، بحول الله. ويظهر أن الدكتور عبدالعزيز يتّبع خطى ابن عقيل في الانفكاك من "مذهب الظاهريّة"، ولذلك حشر "المنهج الظاهريّ" في سياق المناقب بطريقة غير ملائمة. ولو جعل العبارتين متتاليتين، دونما فواصل بينهما؛ أو قال: الظّاهريّ مذهبًا ومنهجًا لقلنا إنّه لا يتكلّف ما يكتب، بل هدفه تأكيد ما يقول؛ ولكنّهما جاءتا منفصلتين؛ فعابتا السّياق وأوهنته، وجعلتنا نلمس بعض ما الظاهريّة فيه من تذبذب وقلق. أمّا الوعيد ففي صبّه كؤوس اللوم والعتاب على من رآهم من المخالفين لابن عقيل. ونيّته في أن يتعقّبهم بالرّد واحدًا واحدًا، لولا أن شيخه أخبره أنّه سيرد بنفسه على أولئك؛ فاكتفى بالتّمهيد لقدوم ابن عقيل الموحي بالويل والثبور لكلّ من خالفه في شيء. وعزاؤنا أنّه لو ردّ وردّ شيخه، في الوقت نفسه، لتناقضا في الرّد؛ وشاهدُنا ما جاء في مقالته هذه من مسائل عارضه فيها، وصَفّ مع منتقديه. وفي ذلك ما يشهد للمخالفين بشيء من الحقّ. وفي الاتهام، جعلني ممّن حكم على باطن شيخه وسريرته. وقال: "القرني أثنى وثنّى، وهدم وبنى، وكاد يمسك بزمام التّوبة، ويوصد باب القبول". والحمد لله أنّه قال: "وهدم وبنى" ولم يقل "وبنى وهدم"؛ ليستقرّ البناء بعد الهدم؛ وفي هذا ما يدلّ على عموم رضاه عمّا قيل. ثمّ هل لبشر أن يمسك بزمام التّوبة ويوصد باب القبول، حتّى أوشكُ أن أفعل ذلك؟!. ليتك بيّنت لي ولو بمثال واحد حتّى أعود إلى الحقّ قبل أن أتمادى فأهلك. هذه دعوى خطيرة يعوزها الدّليل يا دكتور عبد العزيز. وأمّا النّقد فجاء لشيخه مثلما جاء لنا نحن المعقبون أو أكثر، إذ عارضه في معنى الظّاهر كما فعلتُ؛ وعارضه في ترتيب مذهب الظّاهريّة بين المذاهب، فهو عنده الأوّل وعند ابن عقيل الرّابع أو الخامس. وعارضه في حدّته في الرّضا والغضب، وهو حوله أو زائد عنه في ذلك؛ وعارضه في طريقة حديثه عن أبي تراب، رحمه الله. فالدّكتور عبدالعزيز مع المنتقدين في مسائل كثر؛ ولكنّه مسح نقده أو قل مرخه بلغةٍ ظاهريّة خلاّبه جعلته في مقام المحمودين. بقي أن أبيّن أن قول الظّاهريّة إنّ الإسلام هو دين الظاهر أو أن الصّحابة كانوا ظاهريين قول شاطح لا دليل عليه. وإن قيل هذا قبل نشوء المذاهب، فهو خطأ يتحمّله من قاله. والّذي نقبله أنّ الإسلام هو دين الحقّ، وإن الصحابة كانوا على هذا الحقّ المبين. وقول القائل، قبل نشوء المذاهب: إن النّاس على الأخذ بظاهر الدين؛ فمقصوده أنّهم يأخذون الكلام بمعناه، أو على ظاهر معناه، ولا يحمّلونه ما لا يحتمل منه. أمّا من قال، بعد المذاهب: إنّ الإسلام هو دين الظاهر وإنّ الصحابة كانوا ظاهريين، فقوله أخطر وخطؤه أجسم؛ إذ أنّه يزيد عمّن سبقه بانصراف المعنى إلى المذهب المعروف بهذا الاسم المتأخّر، فيُختزل الإسلام، ويُشوّه في عيون النّاس وعقولهم. وإن قال قائل: إنّ أهل المذهب الظّاهريّ هم على الظاهر من الدّين بحسب المفهوم السّابق؛ قلنا: حتّى لو قيل ذلك، لما جاز لنا أن نقول إن الإسلام هو دين الظاهر، وأن الصّحابة كانوا ظاهريين، وإن الانتساب للظاهر هو كالانتساب إلى الإسلام والإيمان وكالانتساب إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، على حدّ قول الدكتور عبدالعزي؛ لأسباب مهمّة جدًّا، منها كون أهل المذهب الظّاهريّ ممّن يخالف الظّاهر في مسائل يعرفونها؛ وهم مخالفون كذلك لمذاهب يرى أهلها أنّهم على الظاهر من الدين كالشّافعيّ والحنفيّ والحنبليّ. وهذه المذاهب في خلاف فيما بينها في مسائل قلّت أو كثرت. وكفى بهذا إضعافًا للإسلام، وتشتيتًا للمسلمين في زمنٍ لا مكان فيه للفلسفة الهائمة، ولا للمماحكات اللّفظيّة الخاوية. هل لنا أن نقول لأهل هذه الدعوى: (إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان). ويا ليت المذاهب ما كانت؛ أمّا علماؤها المجتهدون الأفاضل الذّين سُمِّيت بأسمائهم أو عرفت بهم فيما بعد، فما لهم منّا إلاّ الدّعاء بالرحمة وواسع المغفرة؛ فهم مدارس في فقههم، بذلوا من الجهد في حياتهم ما جعلهم أئمّة يقتدى بهم، ويستنار بآرائهم؛ فسعيهم محمود ومنهجهم لا خلل فيه. ويا ليت منهم في كلّ أمّة ألوفا مؤلّفة. إنّما الخلل جاء من توزّع النّاس على هذه المذاهب، والتّعصّب لها؛ والصّدور عنها، والتّركيز عليها وعلى أصحابها أكثر من التّركيز على صاحب الرّسالة-عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم- وعلى مصادر الدّين الحنيف الميسّرة لكلّ ذي لبّ. ومن أشدّ علامات التّعصّب ظهورًا وبناءً فيه، أن يسمّي المرء نفسه باسم المذهب، سواء أكان، في واقعه، متعصّبًا أو غير متعصّب. فما يظهر للنّاس من أمره يظلّ ذا خطر عظيم؛ لأنّ أكثرهم مقلِّد متّبِع. وبالله التّوفيق. [email protected] !!Article.footers.image-caption!!