يأتي قرار هيئة كبار العلماء الأخير المتعلق بتجريم تمويل العمليات الإرهبية ليؤكد على الدور الريادي والمشرف لأعلى مرجعية دينية في السعودية في تصديها لآفة العصر ، ويعد هذا القرار بحق درة التاج في سلسلة من البيانات والقرارات التي اتخذتها الهيئة منذ نشأتها في التسعينات الهجرية من القرن الهجري الماضي إلى عهدها المبارك في هذا الوقت . ويجيء هذا القرار في ذات السياق المنهجي الذي اختطته الهيئة في بياناتها وقرارتها من حيث الالتزام بإيراد الأدلة من الكتاب والسنة النبوية الصحيحة ، مقرونة بالقواعد الشرعية المقررة، ومصحوبة بالتعليلات الفقهية المؤصلة ، مع الاستئناس بأقوال كبار العلماء المتقدمين والمحققين من أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم وأزمانهم ، وقد جاء القرار استمراراً لهذا النهج العلمي الموضوعي الموثَّق. وبمراجعة سريعة لمسيرة هيئة كبار العلماء منذ حادثة الحرم المكي إلى اليوم نجد جملة من قراراتها وبياناتها قد خصصت للجرائم الإرهابية تحديداً كما هو موضح في الجدول المرفق: إلا أن القرار الأخير يتميز بعدة أمور أوجبت التنويه به ، ومن أبرزها: - الصياغة المحكمة الدقيقة والشاملة، فقد تمت صياغته بأسلوب شبيه بالمواد النظامية القانونية، وبعبارات مفصلة شاملة وبألفاظ عامة منضبطة، وهذا ظاهر وبين في الفقرة القائلة: (إن تمويل الإرهاب أو الشروع فيه محرم وجريمة معاقب عليها شرعاً، سواء بتوفير الأموال أم جمعها أم المشاركة في ذلك، بأي وسيلة كانت، وسواء كانت الأصول مالية أم غير مالية، وسواء كانت مصادر الأموال مشروعة أم غير مشروعة). - إن هذا القرار يتميز عن باقي البيانات والقرارات الصادرة عن الهيئة بأنه لا يأتي كردة فعل على عملية بعينها، كما أنه لا يخص المملكة فقط، بل جاء بوصفه فتوى عالمية تهم العالم بأسره. - تحديد الإرهاب وتعريفه تعريفاً واضحاً مزيلاً لأي لبس بأنه: (جريمة تستهدف الإفساد من خلال زعزعة الأمن، والجناية على الأنفس والأموال والممتلكات الخاصة والعامة)، وزيادة في الوضوح تم بيان صور متنوعة وأمثلة مختلفة للتعريف لكي يكتمل تصوره بشكل لا لبس فيه. - الإشارة إلى أن العقوبة المقررة لجريمة تمويل الإرهاب، هي عقوبة تعزيرية مناطة بصاحب الشأن وهو القاضي الذي ينظر في القضايا والتهم المعروضة أمامه ويقدر العقوبة المناسبة وفق ضوابط التعازير الشرعية لكل حالة بحسب أثر جريمة التمويل في العمليات الإرهابية. - الإشارة إلى ضرورة التفريق بين جمع التبرعات الخيرية التي تنتهي إلى أيدي الفقراء والمحتاجين، وبين ما قد يستخدمه ممولو العمليات الإرهابية من تزوير وخداع تحت مسميات خيرية، وجاء هذا التنويه في الفقرة التالية: (وتؤكد الهيئة أن تجريم تمويل الإرهاب لا يتناول دعم سبل الخير التي تعنى بالفقراء في معيشتهم، وعلاجهم، وتعليمهم لأن ذلك مما شرعه الله في أموال الأغنياء حقاً للفقراء). وقد يستغرب البعض من التنويه بأهمية هذا القرار، ومصدر ذلك لديهم منطلق من أنه من الحقائق الشرعية المعروفة أن الوسائل لها حكم المقاصد، وبالتالي فتمويل الإرهاب يأخذ حكمه بالضرورة، فلماذا كان هذا القرار مهماً؟ وفي نظري أن الإجابة عن هذا السؤال ، يمكن إجمالها في النقاط التالية: أولاً: يعد التمويل الشريان الرئيس المغذي للعمليات الإرهابية، وبقطعه تنتهي أسباب بقائه على أرض الواقع وتختفي مبررات استمراره في التخريب والإفساد، ووجود فتوى من هيئة كبار العلماء في هذا الأمر الخطير، من شأنها أن تنبِّه كثيرا من المواطنين وغيرهم من أبناء العالم الإسلامي أن يكونوا على يقظة من مزاعم بعض المفسدين الذين يقومون برفع دعاوى جمع تبرعات خيرية ظاهراً، وهم يبطنون شيئاً آخر يخدم الأعمال المسماة زيفاً وزوراً بالجهادية، وهي إفساد محض، وبهذا يتحقق التحذير من عدم التساهل في بذل المال في الأعمال الخيرية إلا إلى جهة معلومة معروفة تخضع للمراقبة لئلا يستغل العمل الخيري في تلك الأعمال المجرمة، ويعلم الجميع أن أولئك المفسدين قد مارسوا مثل هذه الأكاذيب بغرض تمويل أعمالهم الباطلة، والوقائع المعاصرة تؤكد على أن تلك الجماعات حاولت جمع التبرعات في موسم الحج قبل سنوات بكوبونات الأضاحي المزورة، كما يقومون باستغلال الكوارث أو الحوادث العامة في جمع التبرعات الخاصة بدعوى مساعدة المحتاجين. ثانياً: إن المملكة بقياداتها السياسية والعلمية أصبحت مستهدفة من مطلقي التهم والشائعات في الإعلام الخارجي وبعض الدوائر العالمية المشبوهة، فصدور هذا القرار تأكيد لأمر واضح هو من حقائق ديننا الحنيف ومنهجنا الوسطي المعتدل والواضح في مكافحة الإرهاب ومحاربة أسبابه، ويستفاد من ذلك التوكيد في مواجهة تلك الحملات الظالمة والتلفيقات المشبوهة التي ما انفكت بعض الجهات الخارجية المناوئة لبلدنا تطلقها بين الفينة والأخرى. ثالثاً: إن هذا القرار التاريخي من الهيئة قد يكون توطئة لإعداد مشروع نظام مستقل حول مكافحة تمويل الإرهاب في المملكة، وبالتالي يعد هذا القرار الخطوة الأولى في الطريق، ليأخذ أدواره التشريعية المعتادة فيستقر بعد إقراره النهائي بوصفه نظاما في سلسلة من أنظمة الدولة المعتمدة لمكافحة الإرهاب وتجريمه وتجفيف منابعه وأسبابه، وهذا في تقديري الشخصي مهم لاستكمال البنى النظامية اللازمة لمكافحة هذه الآفة، وحتى يتحقق التمام لمنظومة الاستراتيجية السعودية الشاملة في محاربة الإرهاب فكرياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً ونظامياً. وبهذه المناسبة أجد من المهم أن أوجه ندائي لبعض الشباب الذين يدفعهم الحماس إلى المشاركة في جمع الأموال، وهم لا يعلمون على وجه اليقين إلى أين تذهب، وفي يد من تقع، فلكل شباب الوطن وأبنائه أقول: إن معيار كشف صدق أي شخص يدعي الجهاد والانشغال بهموم البلاد الإسلامية المحتلة في العالم أن تعرض أقواله على ثوابت الأخلاق الفطرية، فالدين كله خلق، هذه مسلمة ثابتة قطعية لا تقبل الجدل ولا القسمة أو المفاوضة. يستحيل أن يقبل أو يجيز الإسلام الغدر والكذب تحت اسم الصدق، ويستحيل أن يجيز إسلامنا الخيانة في التعامل مع الناس بدعوى تمويل الجهاد المزعوم. ولا يمكن أن يبيح الدين السرقة والخداع والغش لخدمة أهداف ستأتي فيما بعد. إن من سوغ لك الكذب اليوم على أنه وضع مؤقت لنصرة الإسلام والمسلمين، فسيكذب عليك في كل شيء اليوم وغداً وبعد غد حتى يوردك جهنم معه بلا ضمير يهجس أو عين تطرف.أتمنى من كل أبناء الوطن أن يركزوا على هذا المعيار الأخلاقي، وأن لا يجعلوا قيم التكافل ومساعدة المحتاجين والتعاطف مع المصائب التي تحل على المسلمين في العالم تحجب عنهم رؤيتهم لهذه الحقيقة. • المشرف على كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري بجامعة الملك سعود