بعد أن أقرت بلجيكا قانونا يقضي بحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، ها هي الحكومة الفرنسية ترفع إلى مجلس النواب مشروع قرار مماثل للتصويت عليه. الكثيرون رأوا أن الحكومتين الفرنسية والبلجيكية افتعلتا القضية لتحويل نظر الرأي العام في البلدين عن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الشعبان. الرئيس ساركوزي برّر تمرير مشروع القرار المذكور بأن النّقاب يعدّ تهديدا لمبادئ الجمهورية الفرنسية التي تستند إلى الحرية والمساواة بين الجنسين. وهو كلام أقلّ ما يوصف به أنه عجيب وعصيّ على الهضم. وإلّا فكيف يمكننا أن نصدق أن مبادئ الجمهورية الفرنسية معرّضة للاختراق ومهددة بالزّوال بسبب ارتداء النقاب..؟ هل مبادئ الجمهورية أوهن من أن تصمد أمام البرقع..؟! وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا الحرص على الدفاع عن مبادئ هشة لا تستطيع أن تصمد أمام قطعة قماش تضعها بضع مئات من سيدات فرنسا والمقيمات فيها، على وجوههن؟! وبالرغم من أنني من مناصري الرأي الفقهي الذي لا يرى وجوب تغطية الوجه، إلا أنني أرى في حظر ارتداء النقاب حجرا على الحريات العامة وانتهاكا لحقوق الإنسان. ذلك أن الحرية كلّ لا يتجزأ، ومن يرتض أن تصادر حرية غيره تحت أية حجّة أو لافتة كانت، لا يحقّ له أن يدافع عن حريته الشخصية إذا ما تعرّضت لخطر المصادرة. نفس الفلسفة تبنّاها في فرنسا كل من التيارين اليساري والليبرالي اللذين عارضا إقرار القانون ووقفا ضد تمريره من الحكومة إلى البرلمان للمصادقة عليه. بعض الشخصيات الفرنسية التي تنتمي إلى هذه التيارات، شخصيات نسائية مسلمة لا يلتزمن بارتداء الحجاب فضلا عن النّقاب. ومع ذلك فإن الكل تعاضد للوقوف في وجه تمرير هذا القانون المشين، لأن الدفاع عن حرية الآخرين لا يستلزم مشاطرتهم آراءهم وتوجهاتهم. هذه الروح التي تتسم بالنضج والنزاهة والبعد عن الانتهازية هي ما يفتقر إليها مدعو الليبرالية في بلادنا. هل قرأتم لأحد مدعي الليبرالية عندنا، مقالًا واحدًا ينتقد فيه فلسفة الكيل بمكيالين التي درج على اتباعها معظم الكتّاب المنتمين إلى هذا الاتجاه..؟ وهل سمعتم أن أحدهم طالب بحرّية غيره ودافع عنها أم أن طرح هؤلاء كان ولا يزال يقتصر على الهجوم على المختلف بغرض الاستئثار بنصيبه في الكعكة؟. مدعو الليبرالية عندنا يطالبون بالحصول على الحرية المطلقة في قمع الآخرين.