اليوم فجر جديد تتهلّل فيه البشائر ضاحكة مستبشرة، فقد توقف نزيف الجراح، وسكنت النفوس المكلومة، بصدور الأمر الملكي فيما يخص فاجعة سيول جدة، وما يحويه من قرارات خطيرة.. وأنا في مقالي هذا لن أسرد ما صدر في الأمر الملكي من أوامر، فهذا ما ستنشره كل الصحف والإذاعات، وجميع وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، وسيطّلع عليه كل مواطن، ولكنني أحب أن أسجل بكل صدق وأمانة، صدى ذلك الأمر الملكي، ومدى وقعه على نفسي، وتغلغله في أعماقي كمواطنة، كانت تترقب النتائج على أحر من الجمر. قرأت الأمر الملكي فشعرت بالخوف والرهبة، وسرت في جسمي قشعريرة هيّجتها كلماته الصادقة، التي أيقظت حواسي جميعها، حتى علمت أنني لا أقرأه بعيني، وإنما تشاركني جميع حواسي وأحاسيسي، فشعرت بكلماته وجمله تهزني هزًا، وكأنني أسمع لها دويًا ورنينًا يوقظ كل نائم، إنه صوت الحق المجلجل من قلب صادق حانٍ. لم تكن تلك الكلمات مكتوبة بمداد الحروف، وإنما كتبت بمداد الوجدان الصادق. إنها كلمات حية نابضة بالألم والإحساس بالفجيعة. هذه الأوامر الملكية تؤكد في كل حرف من حروفها أن خادم الحرمين الشريفين لم يذق للنوم طعمًا، فهو وإن غمضت عيناه فإن قلبه مستيقظ، وإنه يتضور ألمًا، فصوت المسؤولية يوخزه في كل لحظة، كيف لا وقد ابتدأ الأمر الملكي بمقدمة ترج الجبال الرواسي، وتطمئن الطير الخوافي، إذ ذكّر نفسه قبل المواطن بعِظم الأمانة، وأي كلمات أعظم من قوله تعالى:(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً) هذا الشعور الصادق بالمسؤولية هو من دفعه إلى عدم إخفاء الحقائق، وعدم التهوين أو استصغار الفاجعة، وعدم تكميم الأفواه المحتجة الصارخة، بل عرف حجم الفجيعة، وأحس بكل صرخة منكوب، وشعر بلذع دمع كل مكلوم، وهذا ما نستشفه من تسميته للقضية (بفاجعة سيول جدة)، وتردد لفظ الفاجعة ومرادفات الألم أكثر من ثلاث عشرة مرة، هذا إلى جانب صداها في كل حرف، استمع إليه وهو يقول: (واستصحابًا لجسامة خطب هذه الفاجعة، وما خلّفته من مآسٍ لا نزال نستشعر أحداثها المؤلمة، وتداعياتها حتى نقف على الحقيقة بكامل تفاصيلها لإيقاع الجزاء الشرعي الرادع على كل مَن ثبت تورّطه أو تقصيره في هذا المصاب المفجع)، وكما شعرت بالخوف والرهبة شعرت بالأمان والطمأنينة، شعرت بنبضات قلب والد حنون ما زال يتقلب على جمر الغضا، وأن لوعته على المفقودين لم تخبُ جذوتها، كيف لا أشعر بالأمن والأمان، وأنا أسمع قوله: (لا نخشى في الله لومة لائم، فعقيدتنا، ثم وطننا، ومواطنونا أثمن وأعز ما نحافظ عليه ونرعاه، جاعلين نصب أعيننا ما يجب علينا من إبراء الذمة أمام الله تعالى، بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، انتصارًا لحق الوطن والمواطن، وكل مقيم على أرضنا، وتخفيفًا من لوعة ذوي الضحايا الأبرياء، وتعزيزًا لكرامة الشهداء -رحمهم الله- بإرساء معايير الحق والعدالة). وبعد هذه الكلمات الغنية عن كل تعليق، فليطمئن كل مواطن، وليطمئن كل مقيم، فهذا صوت الحق، وصوت العدل أخذ يصدح ليصل لكل أذن مهما نأت وبعُدت. وبعد هذا الأمر الملكي الحازم الرادع المتوعد بإدراج جرائم الفساد المالي والإداري ضمن الجرائم التي لا يشملها العفو الوارد في ضوء التعليمات والأوامر والتنظيمات المتعلّقة بمكافحة الفساد.. بعد هذا هل سيفكر أحمق في التفريط في الأمانة؟!