ظهره ومِشيته يخبران أنه يكبُر أبي، لكنه مع ذلك ينادي أبي يا عمّ -كما يفعل الآن حول صحن السحور المرتفع عن الأرض بفضل طشتٍ مقلوب- وهذا سؤال لم أتأخر كثيرًا في العثور على إجابته. كان (بابكر) ثاني راعٍ يجلبه لنا البحر. سابقُه (الصِّدّيق) كان شابًا عشرينيًا لا يطفئ فانوس خيمته طوال الليل. يقرأ المكاتيبَ التي يجيء بها عوض الله وغيره من الرعاة، ويردّ عليها ليسلمها إليهم في النهار. وهكذا لم يكن يكفيه أذانُ أبي للفجر حتى يستيقظ من نومه، بل لا بدّ من رسول ليوقظه كل صباح. نبت استياءٌ في صدر أبي من الصِّدّيق حتى جاء الثعلب وأكل رِخلًا مولودة للتو في المرعى، ففاض الكيل. اكتشفنا أنه ينشغل عن رعيّته بخذْف الحَرابي وهي تعتلي الصخور. ينتظرها تخرج كل ضحى وتتابع الشمس أنّى دارت، فيتصيّدها بالحصى. أعطاه أبي أجره في اليوم الذي استقبلنا اثنين لم يكونا غير ابنيْ عمٍّ باحثَيْن عن عمل. اختار أبي الذي ظنّه أصلحهما، وكان يحمل عصا جرداء لها عقد محروقة ومنحوتة بعناية. غادر ابن العمّ، وبقى الذي علّق على السبب المعلَن للاستغناء عن الصِّدّيق بقولٍ يتلبّس حكمةً ودراية: - الرّيد كاتله.(1) لبابكر جذعٌ هزيل، ومشيةٌ متأنية، ووجهٌ متغضن تحفّ عارضيه ذقنٌ لم أجد وصفًا لها كالذي اخترعه بابكر نفسُه. عدّ رؤوس القطيع بإشراف أبي واتفق على أن يستلم المهمّة في الصباح. استيقظ قبل الجميع من اليوم الأول، وأذّن للفجر بنغمة لم نعتدها. بعد الصلاة طلب جهاز راديو، ثم فزّ وهو يستلم جهاز أبي الصغير ويشقّ الغبش بهمّة. في عهد بابكر حدث -مرتين- أن تموت رِخلٌ حين الولادة في المرعى. ينصت أبي للتفاصيل من الراعي، فيحوقل ويُحَسْبِن. يعزّيه بابكر باقتضاب ولا يلبث أن يعود لاستئناف عمله. الليلة نقص الكيروسين في بطن الفانوس فاحمرّ ضوؤه وبدا كسيحًا كثير السناج. على الضوء الواهن، كان بابكر ينتقش الشوكَ من باطن حذائه المطاطي، فيبين على وجه الحذاء وسمٌ بالنار هو ذات الوسم المشلوخ على وجهه الناضح عرقًا. زان له أن ينقل أخبار الراديو بطريقته، ولكن أيًا من تلك الأخبار لم يلقَ اهتمام أبي أو أولاده الناعسين بانتظار السحور. اقتنص بابكر لحظة صمت تمتدّ في جبين أبي، فتنحنح وأطلق لسانه من جديد. مرةً محذرًا ومرة متهكمًا وأخرى مستعرضًا ذاكرته المتقلصة من أثر السنين. اختارنا موضوعًا لثرثرته: - فلان، عليك الله ما تدربي البراميل! علاّن، عليك الله ما تتوضا باللبن! لا شك أنه كان يظن أنه يقترب مع كل كلمة شبرًا من رضا ربه. ولا شك أنه صُدم لأن أبي لم يعلّق رغم النظرات المريبة التي اكتسحت بعض الوجوه الصغيرة. عندها أخذ يتكلم عن الحرب والنضال وجبهات التحرير، وعن العصيّ التي تدحر مدّ العدوان. وعن اللحظة الحاسمة في تاريخ المقاومة الشعبية. ورغم أننا لم نفهم شيئًا، بدا له موضوع الحرب بين الدولتين المتجاورتين أكثر إثارة. حتى إذا ما انتهينا من السحور ولعق سبابته التي لا زال يصقل تخشّبها دهن الأكل، أدنى الفانوس منه وخطّ على الأرض خطين متقابلين. ثم قال بحماس شديد مشيرًا إلى الخط الأدنى منه والذي بدا غائرًا في التراب كأخدود: - دا الديش(2) السوداني.. رافع العلم السوداني.. وساحبًا أبصارنا إلى الخط المقابل: - ودا الديش المصري.. رافع العلم المصري.. ثم صمت قليلًا ليتأكد من متابعتنا له، ثم غرز أصبعه مرة أخرى في نقطةٍ ما بين الخطّين وتركه هناك، مشيرًا إلى المنطقة الدائر حولها النزاع: - دي حلايب ! استعرض مهارته في وصف المشهد وكأنه مراسل تليفزيوني من قلب الحدث. نقل عن قائد المعركة من الطرف القريب إليه تهديده، وكان مالئًا فمه بحماس مَن يخطب في حشد: - علِّم ناسَك العوم، قبل لا أفكّ عليك السد العالي! لم نعرف كيف انتهت المواجهة، إذ إنها انتهت عند هذا التهديد. أما المراسل التليفزيوني فمسح يده بذقنه، وتذكرت وأنا أرفع الصحن الممسوح جيدًا وصفه للرعاة من دولة أخرى: دقونتهُنْ زيّ المقاشيش! لما نهض بابكر سمعنا في جيب ثوبه العَرّاقي صوت حصى كثير، أعلى من صوتٍ صدر من ركبتيه. أخذ حذاءه المطاطي الموسوم بين أصابع يساره، وغاب رويدًا رويدًا في الظلام. ___________ (1) الحب قاتلُه. (2) الجيش.