لا شك أن الترجمة هي المدخل الطبيعي لكل تواصل حضاري، وتلاقح بين الحضارات، وأنها الباب الرئيسي للإقلاع الحضاري الذي ننشده ونعمل من اجله. فمن خلالها يمكن الإطلاع على مختلف المعارف، وتكوين رصيد واسع من المفاهيم والعلوم. وبواسطتها يمكن التواصل مع البلدان الأخرى، وتقديم الصورة الصحيحة للمجتمعِ العربي. ومن هذا المفهوم جاءت جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة في مجال العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إلي اللغة العربية.. هذه الجائزة التقديرية التي تمنح سنويًّا منذ 2006 للأعمال المتميزة والجهود البارزة في مجال الترجمة تحصل عليها المركز التونسي للترجمة وذلك عن كتاب «معجم تحليل الخطاب» الذي ترجمه الدكتور عبدالقادر المهيري والدكتور حمادي صمود، من اللغة الفرنسية للعربية.. «الأربعاء» جمع بين الدكتور حمادي صمود أستاذ بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بتونس والدكتور عبدالقادر المهيري في هذا الحوار مستجليًا إحساسهما بهذا الفوز والدور الذي قاما به في ترجمة هذا الكتاب.. مستهلاً الحوار مع الدكتور صمود.. هدف معرفي * كيف تقبلت فوزك بجائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة؟ تقبلت الخبر باعتزاز وفرح ومسؤولية، لأن جائزة خادم الحرمين الشريفين تحمل صاحبها المسؤولية فيما يأتي من أعمال قادمة التي يجب أن تكون في مستوى أكبر.. صحيح أننا لم يكن هدفنا السعي للجائزة والفوز بها، ولكن الحاصل الآن أسعدنا كثيرًا.. فلما فكرنا في ترجمة الكتاب مع الأستاذ عبدالقادر المهيري كان هدفنا الأساسي معرفي يتعلق بإفادة الطلبة والقراء العرب، بوضعهم في مقامات نص مهم فيه حصيلة مهمة للسانيات المتعلقة باستعمال اللغة في مقامات وفي مخاطبات، وهذا العمل أنجزناه في نطاق مؤسسة تونسية رسمية ونعني به المركز الوطني للترجمة، وهي مشكورة لقيامها بعملية ترشيح عملنا. معجم الخطابة * فيما يتمثل عملكم الفائز بالجائزة؟ العمل هو معجم ترجمناه عن الفرنسية، بعد أن أشرف عليه أساتذة كبار في هذا الاختصاص وشارك في تحرير مداخله عدد لا بأس به من المختصين الآخرين، ويتفاوت عدد المداخل التي حررها كل واحد؛ ولكن الإشراف العلمي وقع من قبل أستاذين مشهورين في هذا الاختصاص هما: باتريك شارودو، ودومينيك منغنو، والمعجم هو في نهاية الأمر استمرار لكل التفكير القديم في الخطابة، ثم أصبح في اللسانيات الحديثة في التداولية وهو استعمال اللغة في مقامات معينة، وكيف تتأثر تلك المقامات التي تستعمل فيها اللغة في اللغة نفسها، كيف تؤثر في اللغة وفي الأطراف المعينة بعملية اللغة، وهذه المقامات متنوعة وتمشي إلى أكثر المقامات رسوخًا في الأدب مثلا كالخطاب الأدبي إلى أن تنتهي الى الخطابات اليومية التي يقولها الناس في حياتهم اليومية، ما يسمى بالمخاطبات وما ينتج عنها من تفاعلات بين الأطراف المتخاطبة وانعكاس كل ذلك على الخطاب، بحيث هو معجم فيه الآليات الضرورية لتحليل المخاطبات بقطع النظر عن الميدان الذي نكتب فيه يمكن تحليل المخاطبات الأدبية، مخاطبات يومية محادثات أو تعامل باللغة وكذلك المخاطبات الدينية، السياسية، والاشهارية، إذن هو يوفر المادة الضرورية للناس التي تهتم بالخطاب والتي من شأنها أن تعطيهم الأساسية لتفكيك الخطاب ولفهم المغازي والاستراتيجيات التي تقع في الخطاب والتي يبنيها الخطاب ونفهم في نهاية الأمر سلطة اللغة وكيف أن المتعاملين باللغة عندما يتعاملون بها مقامات معينة يسعون إلى الحمل على أو تغيير رأي أو إنقاذ رأي. بحيث يستطيع الخطاب الإشهاري مثلا أن يحول النص إلى فعل الى إقبال على بضاعة الى.. من دون أن يكون هذا الخطاب معني في حد ذاته وإنما هو يعطيك الآليات العامة التي تتحكم في الخطاب.. هذه أهمية هذا المعجم الحديث، الصادر في فرنسا سنة 2002 إلى حين تمت ترجمته سنة 2009 ، وهذا في حد ذاته يعتبر شيء مهم جدًّا بعد مرور سبع سنوات على صدوره. انفتاح على الآخر * بوصفك تعليمًا عاليا ومترجما.. ماذا تمثل لك جائزة خادم الحرمين الشريفين؟ هي في حد ذاتها دلالتها كبيرة لأن في حد علمي هي الجائزة الأولى التي تحمل اسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، وهي جائزة الترجمة بما قد يدل عليه مصطلح الترجمة، إلى الانفتاح على الغير، الاستفادة منه وإفادته، عملية حوار متبادل، بعيد عن كل أشكال التعصب والتقوقع على الذات إذن دلالتها الرمزية دلالة مهمة جدًّا، ولا أظن شخصيًّا أنه من باب الصدفة أن كانت الجائزة الأولى باسم خادم الحرمين الشريفين هي جائزة ترجمة، هذا له دلالة عميقة على توجهات الملك عبدالله وعلى ما يسعى إلى بلوغه بالنسبة إلى بلده وللأمة العربية الإسلامية قاطبة، هي دعوة إلى الانفتاح على الغير، والاستفادة من المعرفة التي لا جنس لها باعتبارها معرفة إنسانية اقتداء بالحديث النبوي المشهور (الحكمة ضالة المؤمن التقطها حيث وجدها) إذن ليست هناك فواصل في المعرفة وهذا له دلالة رمزية في جائزة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله.. المغزى العميق وفي إجابته عن السؤال نفسه يقول الدكتور عبدالقادر المهيري، الأستاذ بكلية الآداب بمنوبة، وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سابقًا، رئيس جامعة تونس، وكاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي سابقًا: يبدو أن لهذه الجائزة مغزى عميقًا، فأن تأتي هذه الجائزة من الجزيرة العربية فذلك معناه أنه ربط الحاضر بالماضي؛ فمعلوم أن الدور الذي اضطلعت به الترجمة في العصور الأولى من الإسلام معروف، والآن تدل الجائزة على والوعي بأهمية الترجمة في تطوير البلاد العربية وتطور اللغة العربية. وأعتقد أن من فائدة العرب أن يترجموا كل ما ينشر بلغات أجنبية مهما كانت الاختصاصات، ومهما كانت أهداف الكتب التي تكتب بلغات أجنبية حتى إذا كانت هذه الكتب فيها نوع من الانتقاد أو مهاجمة العالم العربي، يجب على الإنسان أن يعرف ماذا يفكر أعداؤه. لذا اعتبر هذه الجائزة لها مغزى عميقًا، ولهذا أعتز بها مع زميلي وصديقي حمادي صمود. مركز مهم * تحصل معكم المركز التونسي للترجمة أيضًا على جائزة خادم الحرمين الشريفين فما هي انجازات المركز المترجم؟ أعتقد أن منطلق المركز كان منطلق هام جدا فسنة 2009 نشر عددًا لا بأس به من كتب وذلك كان راجع إلى حسن تنظيمه والى كفاءة مديره، وسيكون له حظ كبير في المستقبل بقدر ما يوجد من مترجمين وبقدر ما يوجد من إقبال الباحثين والمختصين في اللغات الأجنبية من مترجمين.. المركز قام أيضًا بمجهود كبير للتعريف بالمشهد الثقافي التونسي سواء كتب ألفت في اختصاص العلوم الإنسانية أو مصنفات إبداع أدبي، وينبغي أن نقول إن الأثر الذي له قيمة بجلب الانتباه ويقبل عليه الأجانب بدون أن يقوم أهله بترجمته، الترجمة مبدئيًّا ينبغي أن تأتي من الخارج لا من بلادنا؛ ولكن مع هذا يوجد مجهود قام به المركز الوطني للترجمة بترجمة بعض الآثار الأدبية والعلوم الإنسانية. جهود قليلة * من واقع تجربتك ما هو حظ العرب من الترجمة في مختلف المجالات الأدبية والفكرية والتاريخية؟ يبدو أن حظ الترجمة في العالم العربي محدود جدًّا، وحسب إحصائيات اليونسكو أن جل البلاد العربية تترجم أقل ما تترجمه دولة أوروبية صغيرة، فكل ما يترجم في العالم العربي هو دون ما يترجم في دولة اليونان وحدها، ولهذا السبب في السنوات الماضية وقع نوع من الوعي بهذا المشكل لهذا أنشئت مؤسسات ترجمة عديدة في العالم العربي. صمود العربية * في ظل تطلعنا إلى ما يصدره العالم الغربي من كتب تعاني لغتنا العربية من تراجع.. هل يعني أنها في مأزق؟ اللغة العربية لا تمر بمأزق، وربما ما يميز اللغة العربية عن غيرها من لغات أنها صمدت منذ عرفناها منذ العهد الجاهلي، منذ نزول القرآن الكريم، لا أظن أنه توجد لغة قد حافظت على أمورها الأساسية خاصة في ما يتحقق بنظامها الصرفي ونظامها النحوي كاللغة العربية، وعندما أقول لا تمر بمأزق لأنني أعتقد أن اللغة كلها قادرة على أن تعبّر عن كل المفاهيم؛ ولكن ينبغي أن يكتب أهلها بها، وينبغي أن يترجموا بواسطتها، فدور الترجمة لا يتمثّل في نقل ما كتبه الغير فحسب، المعارف التي وصل إليها الغير فحسب، ولكن دور الترجمة يتمثّل في تطوير اللغة، في تذليل اللغة، في إجبار اللغة على التعبير عن مفاهيم لم يكن بها عهد لها.