رصاصة في قلب الماضي حيث يرى الناقد محمد العباس أنه من المفترض أن تكون علاقة المثقف بالتراث علاقة قوية ومتعددة الأبعاد سواء الموروث المادي أو اللامادي، ماضيًا إلى القول: لكن يلاحظ أن أغلب المثقفين هم أبعد ما يكونون عن هذا النشاط؛ ففي المجال المادي لا توجد هنالك حالة من التماس الميداني المباشر مع ما تبقى من آثار غنية ومحرضة على المجادلة، وكذلك يندر وجود نصوص تجادل الموروث من منطلقات تاريخية وتحليلية؛ وكأن النص غير معني إلا بما يوجد في اللحظة أو الراهن، وبالتأكيد هنالك أسباب كثيرة ومعقدة لهذه العلاقة المرتبكة، قد تتحمّل المؤسسة الثقافية بعضها؛ ولكن المثقف أيضًا يتحمّل جانبا غير يسير في الموضوع نتيجة الوعي القاصر عند أغلب المثقفين بأهمية التراث وما يحويه من مادة قابلة للمساجلة والتحوّل إلى نص إبداعي أصيل بالإضافة إلى مجموعة من التداعيات تتمثل على الأقل في عدم وجود منتديات أو ملتقيات تدفع بهذا الاتجاه، فطوال الأربع سنوات الماضية مثلاً لم يتبنَ أي نادٍ أدبي أو جمعية ثقافة وفنون ملتقى خاصًّا بالتراث، واعتقد أن الأهمية بمكان أن يكون هنالك ملتقى مخصص لمناقشة التراث بمستوياته المادية والمعنوية، بمعنى أن يكون هنالك اشتغال بحثي على المكون الآثاري كمادة واقعية على الأرض مقابل ما يفترض أن يجادل من الحكاية الشعبية وما يتداعى عنها من نصوص. ويضيف العبّاس: أما الهيئة العامة للسياحة والآثار فتختلف منطلقاتها ناحية الموروث عن الطريقة التي ينظر من خلالها المثقف لبنية التراث، إضافة إلى أن للمؤسسة الدينية مجموعة من التحفّظات حول القيم الآثارية وهذه النظرات المختلفة لا تتجادل للأسف من أجل الوصول إلى صيغة مقنعة يمكن التواصل من خلالها مع المتلقي والنتيجة هي ضياع التراث ما بين ذهنية يغلب عليها طابع السياحة وعقلية تبالغ في الحذر من فكرة إحياء التراث فيما يبقى الجاد والواعي بأهمية التراث يمارس بعض التصورات النصية التي لا تكفي لاستنهاض التراث وإعادة طرحه كقيمة حضارية وثقافية، أما المتلقي في حالة انتظار مزمن للكيفية التي يمكن من خلالها الاطلاع على تاريخه وماضيه، وهو أمر يؤدي إلى قطيعة مركبة يتواطأ عليها الجميع انتصارًا للحظة الراهنة، وهو أمر يعزز الفكرة القائلة بأن من يطلق الرصاص على ماضيه بأنه يقتل حاضره، وهذه حقيقة ماثلة للعيان نرتكبها جميعًا بحق التراث. زيارة مشروطة ويؤيد عسكر العسكر الباحث في الدراسات والفكر الإسلامي ومكافحة الإرهاب والتطرف زيارة الأماكن الأثرية الدينية مستشهدًا في ذلك بما يُروى من أحاديث نبوية صحيحة في هذا الجانب، غير أنه يضع شروطًا للزيارة تبين في سياق قوله: إذا كان الهدف من الزيارة أخذ العبرة والحذر وتقوية لعرى الإيمان وجاءت زيارته من باب الصدفة وليس من باب العزم والنية فلا بأس فيها، فزيارة أماكن الهالكين كمثل مدائن صالح التي ليس فيها ما يدعو للزيارة فقد روى مسلم في صحيحه في كتاب الزهد عن عبد الله بن عمر قال: مررنا مع رسول الله على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلاَّ أن تكونوا باكين حذرًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع حتى خَلَّفها. وفي رواية أخرى عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. قلت فتبين من الأحاديث المذكورة أن دخول مدائن صالح أو المرور بها له شروط نصت عليها السنة المطهرة في الأحاديث السابقة وما في معناها. قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ما نصه: (وفيه الحث على المراقبة عند المرور بديار الظالمين ومواضع العذاب ومثله الإسراع في وادي محسر لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك فينبغي للمار في مثل هذه المواضع المراقبة والخوف والبكاء والاعتبار بهم وبمصارعهم وأن يستعيذوا بالله من ذلك) قال القرطبي في قوله تعالى :{ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين} كما ورد في فتوى الشيخ صالح الفوزان ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأولها: كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار، فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة). ومنازل أصحاب الحجر عندما مر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو ذاهب إلى تبوك، فقنع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم» (الحديث في الصحاح والسنن) . وكما نلاحظ ما يفعله الجاهلون من توسلهم بالقبور وخاصة قبور الصالحين ومنهم من يشرك بالله الى حد أن يجعل هذا المقبور واسطة بينه وبين الله {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }الإسراء111 والامثلة كثيرة ( مثل زوار السيدة زينب بدمشق ومصر وضريح الإمامين وحجر بن عدي الكندي وقبر خالد بن الوليد) وكما فعل من زوار البقيع. إرث فقهي متقوقع ويشارك الشاعر أحمد التيهاني بقوله: لا أظنُّ بأنّ هناك فجوةً حقيقيّة بين الهيئة العامّة للسياحة والآثار وبعض التيّارات الدينيّة وإنّما هناك إرثٌ فقهي غير قادر على مراعاة ما يُسمّى بفقه الواقع أو اتخاذ الموقف شمّاعة يُعلّقُ عليها التسويف والتكاسل ومن الممكن تغيير الموقف الديني الرافض للاهتمام بالآثار من خلال التواصل مع العلماء القادرين على تفهّم أهمّيتها الحضاريّة والتاريخيّة وذلك من أجل إزالة اللبس الحاصل، فالرفض القائم على الخشية من التقديس الوثني والعقلُ الوثني لم يعد موجودًا في ظلّ الوعي الإنساني الحالي. نعم يمكن تقريب وجهات النظر بكلّ سهولة وذلك من خلال بسط القول في إيجابيّات الاهتمام بالآثار وتهوين المخاوف والاتكاء على العقل، ولا أتصوّر أنّ رجال الدين الآن سيقفون في وجه أيّ إجراء يهتمّ بالآثار لأنّ الأسباب الأولى للرفض قد زالت بدهيًّا. ويضيف التيهاني: أما عن مهمّة المثقفين – في هذا الجانب - تتوقّف عند التبصير والكتابة ومهمّة الباحثين تتوقّف عند المسح الآثاري والرصد وأزعمُ أنّهما قد قاما بهذه المهمّة، وليس أدلّ على ذلك من أنّ الفائز بجائزة أبها لهذا العام في مجال البحث العلمي هو الدكتور مسفر الخثعمي عن موسوعته عن الآثار في منطقة عسير التي تقع في ثمانية مجلّدت ضخمة وأنّ الاستطلاعيين والكُتّاب قد نشروا عشرات الموضوعات عن الآثار عبر المجلاّت المتخصّصة والمجلاّت السياحيّة وتبقت المسائل الإجرائيّة وآليّات التنفيذ المنوطة بالمسؤولين في الهيئة العامة للسياحة والآثار. جهود ناقصة ويتناول الدكتور غيثان بن جريس أستاذ علم التاريخ في جامعة الملك خالد بأبها ما أنجز من دراسات تتعلق بهذه الاثار قائلاً: فيما يتعلق بالآثار الدينية كالمساجد والمقابر وغيرها قدمت العديد من الدراسات وخاصة في كتاب عسير خلال أربعة قرون من خلال 1100ه إلى عام 1400ه حيث عملت العديد من الدراسات على بعض المقابر وبعض المساجد في منطقة السراة من بلاد عسير وكذلك الأجزاء التهامية من منطقة عسير وبعض المناطق من بلاد غامد الجبلية ولقد عملنا أنا ومن معي من الباحثين بعض الدراسات على بعض النقوش والرسومات القديمة التي كان بعضها قبل الإسلام وبعضها كان بعد الإسلام ولقد استطعنا أن نفسر بعض الرسوم والنقوش التي تعود إلى الحضارة السبأية والحضارة الحمرية ولقد عملنا الكثير الدراسات حول الآثار التي ليس بالضرورة أن تكون دينية ولكنها قد تكون سياسية حضارية. والذي أراه أنه ليس هناك فجوة ولكن للأسف الهيئة العامة للسياحة مقتصرة على علاقتها ببعض المختصين والأكاديميين في منطقة معينة ويجب عليها أن تحاول الاستفادة من كل الطاقات البشرية وفي جميع مناطق المملكة العربية السعودية وألا تحصر نشاطها على المتخصصين في جامعة الملك سعود فقط، مع العلم أن هناك متخصصين في جامعات أخرى وأيضًا هناك آثار في كل المناطق وليس فقط في المنطقة الوسطى فقط، فيجب عليها أن تستفيد من الكوادر الأكاديمية المتخصصة التي يمكنها أن تقدم أداء أو إنتاجا علميا وأنا متأكد أن وضع الهيئة العامة للسياحة والآثار سيكون أفضل مما كانت عليه سابقاً وذلك بوجود صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان. ويضيف جريس: نحن نتطلع حقيقة إلى الجهود المتضافرة ما بين الهيئة العامة للسياحة والآثار وما بين الأكاديميين الذين يمكن أن يقدموا بعض المساهمات العلمية والأكاديمية التي تثري المكتبة وتثري الباحثين والدارسين في مجال السياحة والآثار. فهيئة السياحة لا يمكن أن تؤدي عملها إلا بالاستفادة من الأكاديميين المدربين الجيدين في الجامعات سواء من الداخل أو الخارج لأن عمل السياحة كالآثار والنقوش والرسومات وغيرها لا يمكن دراستها إلا من قبل متخصصين فلا بد من تضافر الجهود ما بين الهيئة العامة للسياحة والآثار وما بين الأكاديميين، ويجب كذلك على الجامعات أن تكون متضافرة مع الهيئة العامة للسياحة والآثار لما يفي المصلحة العامة وما يفي الفائدة للصالح العام، كذلك يجب أن تكون هناك منهجية لدراسة الآثار فلو ألقينا نظرة على المملكة العربية السعودية نجد أن هناك مناطق ظُلمت على حساب مناطق أخرى فبعض المناطق تجد هناك تضافر جهود ما بين الهيئة العامة للسياحة والآثار وما بين الأكاديميين ولكن هناك مناطق لم تدرس، على سبيل المثال المنطقة الجنوبية مليئة بالآثار والنقوش والرسوم والقرى الأثرية لم تدرس ونحن نتطلع من الهيئة العامة للسياحة والآثار أن تدرس المواقع الأثرية في جميع مناطق المملكة. تراث إنساني المفكر والكاتب الإسلامي زكي الميلاد يرى ثمة تطور كبير حصل على المستوى العالمي في التعامل مع أي أثر له بعد تاريخي، مشيرًا في ذلك إلى الاهتمام الذي تنهض به منظمة اليونسكو في حماية الآثار التاريخية العالمية ومحاولة إعطاء هذه الآثار صفة تاريخية وإنسانية وعالمية، ماضيًا إلى القول: إن الإنسانية بصورة عامة معنية بهذا الأثر وهذا التراث وفي كل الدول هناك سعي حثيث لمحاولة تسجيل ما لديها من تراث لتصنيفه ضمن التراث العالمي عند اليونسكو، غير أننا مازلنا في جدل وسجال حول ما نملكه من تراث إسلامي في غاية الأهمية من الناحية التاريخية أي أننا لا نستحضر الخبرة الإنسانية والعالمية في التعامل مع تراثنا الأثري التاريخي، إذ ينبغي أن نتخطى مرحلة الجدل والسجال في أن هذه الآثار مفيدة أو غير مفيدة أو أنها تثير الشك في عقائد الناس أو غيره، هذه الآثار ينبغي الحفاظ عليها لأنها من المعالم التاريخية ومن بقايا الأجيال التي مرت على هذه الأرض وهي كنز معرفي ثمين يتعلق بتاريخ الإسلام، ومتى كانت الآثار تبعث الشك في عقائد الناس وإن كانت هناك بعض التصرفات الخاطئة عند البعض فالمشكلة ليست في هذه الآثار إنما هي في أذهان الذين صدرت منهم مثل هذه التصرفات الخاطئة، ونحن سوف نحاسب إنسانيًّا وتاريخيًّا إذا لم نحافظ على آثارنا التاريخية، فالناس في العالم يذهبون إلى أي نقطة يفتشون فيها عن أي آثار تاريخية حتى يحافظون عليها، ونحن نقلل من قيمة ما لدينا من آثار وهي في غاية الأهمية، هذا يعني أننا ينبغي أن نعيد النظر في طريقة تعاملنا مع آثارنا، وفي طريقة فهمنا لهذه الآثار عمرانيًّا، ففي جميع دول أوروبا لديهم قوانين صارمة بعدم مس أي أثر تاريخي حتى لو كان يمثّل ملكًا شخصيًّ للإنسان. رثاء التاريخ ولا يرى الكاتب أحمد عسيري في المحافظة على التراث دعوة للغرق في الماضي وعدم الخروج منه، ولكنها دعوة لحفظ ذاكرة الأمة والبعد عن التفريط في ذلك النسيج التاريخي والجغرافي والذي يدخل في إطار التاريخ الاجتماعي والحفاظ على هويتنا الحضارية ولن يتأتي ذلك إلا بتعميق الدراسات العلمية والبحثية التوثيقية حيث تتصدى له مؤسسات تاريخية تنطلق من واقع علمي ومنهجي. مضيفًا: لقد رثيت لذلك التاريخ المهمل والمنسي والمتهدم والمتآكل والمطعون بفعل الإهمال والضياع وأقصد به تراثنا التاريخي ومواقعنا الأثرية والعمرانية وأوجه الحياة في العصور القديمة ومراكز الاستيطان وأعمال الحفر والنقوش الصخرية والمباني التاريخية التي تدل على ما لهذا الوطن من عمق تاريخي وأصالة حضارية وتراكم معرفي واستقرار بشري وتراث إنساني، وإن دعواتنا المريرة والمتكررة من التعدي على حرمة المواقع والمباني الأثرية وحفظ ما تبقى من تراثنا الإسلامي في المدن والقرى وعدم تطبيق المخططات والمنح على الأراضي التي فيها آثار ورغم هذه النداءات المتواصلة فما يزال الحال على ما هو عليه، لذا يجب ترميم المباني التاريخية والمواقع الأثرية وإقامة المتاحف المحلية والإقليمية وبرامج التنقيبات الأثرية وهذا أضعف الإيمان وأقل الواجبات علينا تجاه آثارنا الوطنية، ثم يأتي بعد ذلك صيانتها وتسجيلها والمحافظة عليها، فنحن نملك في بلادنا ما يقارب ستة آلاف موقع وأثر ومعلم حضاري وتاريخي تنتمي إلى عصور وأزمنة مختلفة بدءًا من العصور الحجرية القديمة ومرورًا بالعصور التاريخية وانتهاء بالعصر الإسلامي بفتراته المختلفة بما في ذلك العصر الحديث، وقد ورد هذا من خلال أعمال المسح التي قامت بها وكالة وزارة التربية والتعليم (المعارف سابقًا) للآثار والمتاحف قبل سنوات طويلة. ويختم العسيري بقوله: أما ما يطرحه بعض الدعاة والحريصين على المنهج العقدي السليم والخوف من ارتكاب بعض المخالفات المشينة والشركية فإن هذا يدفع الهيئة العامة للسياحة والآثار بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية لإشاعة وتأصيل الأفكار السليمة والسلوك الراجح بعيدًا عن التصرفات والمرجعيات المنفلتة والارتداد العقدي واللاسوي الذي يرتكبه هؤلاء المرتادون لهذه الحواضن من الآثار الإسلامية فهم يحملون عاطفة حارة ومندفعة علينا ترشيدها وتعرية الخلل فيها لكي لا تكون مبررًا للإمعان في تغييب آثارنا الإسلامية والروحية وتذويب مكارمها واعتباراتها وامتداداتها في الذاكرة المؤمنة وبما تمثله من عظمة روحية وفكرية وعقلية، فالإسلام دين حي وفاعل وجدير بالبقاء بل هو دين الكمال في كل جوانب الحياة ولن تؤثر عليه تصرفات بشرية جموحة ومتشنجة، ولن تهزه أفكار مضطربة ورغائب بشرية، فنحن قادرون بقليل من التوعية في خطابنا الديني أن نزيل كل هذه الرواسب.