منذ قصة الشاعر الشعبي موهق بن عجاج الروقي مع الشاعر الكبير أحمد الغزاوي في حضرة الملك فيصل - رحمهم الله جميعًا- وهناك تنافس بين العامي والفصيح استطاع في الأخير العامي ممثلاً في الشعر الشعبي (النبطي) من أخذ حصة كبيرة من الشعر العربي الفصيح إعلامًا وجمهورًا متحولاً إلى متن ثقافي حتى كدنا أن نُعرف بهذا الشعر كممثل لوجودنا الثقافي والمعرفي والإبداعي في أرض المعلقات ومهد الشعر، وفي وقت كان من الواجب أن يظل موجودًا ولكن كهامش ثقافي للتسلية والتسامر والفنون الشعبية والتذوق لكل ما هو جميل لكن ما حدث هو العكس!!..رغم أن الساحة الشعرية في المملكة لم تخل من شعراء العربية الكبار إلا أن انتشارهم ظل محصورًا على نطاق ضيق يشهد بذلك عدد الحضور لأمسياتهم ووجودهم الإعلامي وأرقام توزيع مجموعاتهم الشعرية. ولهذا أسباب كثيرة لا أود التوسع فيها ولكن بعضها يرجع إجمالاً للشعراء وعزلتهم التي فرضوها على أنفسهم والبعض الآخر متعلق بالشعر نفسه الذي يقدمه هؤلاء الشعراء على مستوى الشكل والمضمون وأكثر الأسباب وجاهة متعلق بجهات خارج مدارات الشاعر وشعره كوسائل الإعلام والأغنية والفن ومسالك ومصاعب الطباعة والنشر والتسويق إضافة إلى غياب ثقافة القراءة وضعف مناهج الأدب والنصوص الشعرية في مراحل التعليم. كل ذلك مجتمعًا أدى مع الأسف إلى تسلل الثقافة الشعرية العامية عند جمهور الشعر ومحبيه فسادت القصيدة الشعبية وتطورت في مدارج الإبداع والصور الجميلة حتى نسي الكثير في مرحلة ما أننا نهبط بالذوق العام ونقتطع جزءًا غاليًا من ذاكرتنا الثقافية لنسحقه ببلادتنا المعرفية حيث غابت القصيدة العربية في وقت كان شعراؤها حاضرين ولسان حالهم لا حياة لمن تنادي!! ولكني رغم ذلك متفائل بعودة القصيدة العربية والثقافة الجادة برمتها فمن شاهد الجموع الغفيرة وهي تدخل معرض الكتاب الدولي الذي أقيم في الرياض مؤخرًا يوقن أن المجتمع السعودي في حراك ثقافي يتخذ مسارًا صاعدًا مستعيدًا شيئًا من ذاكرته وذاته ولغته وثقافته العربية الأصيلة هذا ما تأكد أيضًا في حفل افتتاح مهرجان الجنادرية لهذا العام والذي جرت فيه العادة أن يفتتح بقصيدة فصحى وأخرى شعبية يقدمها الشاعر- الرهيب – خلف بن هذال العتيبي والذي عادة ما يحوز على إعجاب الحضور والمشاهدين، لكنه في هذه المرة توارى خلف إبداع الشاعر الأحسائي جاسم الصحيح الذي اكتسح ونال إعجاب الجميع بلغة شعرية راقية وبصوت أحسائي عذب.. كان رائعًا حد الدهشة بل إن إصغاء ملك الإنسانية خادم الحرمين الشريفين وتبسمه يعد توقيعًا وتكريمًا للقصيدة العربية التي عاد لها بريقها وحضورها الوطني مع جاسم الصحيح.. لقد كانت ليلة مبهجة تلك التي جنحت فيه العربية الأصيلة لتكون على رأس المشهد الشعري.. في انتصار كبير للثقافة والأدب كرافد تنموي وإنساني لا يمكن تهميشه والاستغناء عنه!!