رغم وجع الفراق إلا أن أسرة وتلاميذ الشيخ الفقيد الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر استبشروا بوفاته في أرض الحرمين الشريفين ودفنه في البقيع بجوار صحابة رسول الله، وقالوا ل"الرسالة" إن الوفاة والدفن في الأراضي المقدسة دليل على نقاء روحه، كما أنها ترد له اعتباره بعدما هاجمه علماء ومثقفون بزعم أن آراءه تحابى الدولة وتتفق مع اتجاهاتها، وأسهب المتحدثون "للرسالة" في الكشف عن الجانب الإنساني للفقيد وأياديه الخيرة وهو ما لم يكن ممكنا قبل وفاته. الاعتماد على الذات يتذكر المهندس حسن طنطاوي وكيل وزارة الكهرباء المصرية الأسبق والشقيق الأصغر للفقيد أن طنطاوي كان يدعو دائماًً أن يلقى ربه ويدفن في الأماكن المقدسة، وكأن السماء قد استجابت لدعوته، حيث خرجت روحه إلى بارئها قبل أن يغادر المملكة بلحظات دقيقة، وقال إن شيخ الأزهر بهذه الوفاة أحسن الله خاتمته بدليل انه دفن في البقيع ، وأنه عانى الكثير من الهجوم عليه من قبل الإعلام، خاصة في الفترة الأخيرة بسبب آرائه التي يرونها ضد الدين، نافياً أن يكون كذلك. وأشار حسن إلى أن علاقته بشيخ الأزهر كانت علاقة الأب بابنه، وقال: كنت اعتبره في مكان والدي، ولقاءاتي معه كانت على فترات بسبب ظروف عمله، وكان يحب أن يلتقي بنا في المناسبات، خاصة عيد الفطر والأضحى، وكان يكثر من اللقاءات في شهر رمضان. وأضاف: لم يكن الشيخ يحب أن يتعب أحداً، خاصة بعد وفاة زوجته، فكان يقوم بترتيب منامه بنفسه وتنظيف ملابسه وتجهيز بعض المأكولات. ويذكر بعضاً من تفاصيل الإمام الراحل ويقول: والده هو الذي اختار له زوجته، ووافق الشيخ على الاختيار، وكان اختياراً طيباً لم يتعبه في حياته. كان يعشق اللغة العربية، وعرف ببلاغة كلماته مع بساطة في الأسلوب وجمال في التعبير. التحق بالأزهر منذ صغره في محافظة سوهاج وحفظ القرآن منذ الصغر وحظي بمكانة خاصة بين زملائه. وكانت نقطة التحول في حياة الشيخ عندما أراد له والده إلحاقه بالأزهر الشريف بالقاهرة، وكان الشيخ يود أن يبقى في الصعيد ولكن إصرار الوالد دفعه لاصطحابه إلى القاهرة، ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن واشترى له كل ما طلب. وقال حسن: الشيخ ترك الكثير من الذكريات الطيبة بعد حياته، خاصة في قريته من مدارس ومستشفيات ومعاهد أزهرية وتراث ديني وكتب وينطبق عليه حديث رسول الله صلى عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". ولا يمكن لمنصف أن ينكر جهود فقيدنا الكبير رحمه الله في مجال الدعوة، ونشاطه في مجال الحوار بين الأديان والثقافات، فقد شارك رغم الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها في عدد من الحوارات الإسلامية المسيحية. حقوق المرأة وبدورها تقول الدكتورة وضوى الخبيت إحدى قريبات الفقيد انه كان يركِّز على المساواة بين الرجل والمرأة في ستة أمور هي أصل الخلقة والتكاليف الشرعية واعتناق الفضائل واجتناب الرذائل وطلب العلم، والعمل الشريف وأخيراً الكرامة الإنسانية، وقالت: كان يدافع عن حقوق المرأة في المحافل والندوات، ويعد الإمام الراحل نصير المرأة في المجتمع المصري، فهو أول من أجاز للمرأة شرعاً تولي رئاسة الدولة، وأكد أن لها حق الترشح والانتخاب وولاية القضاء، وأنه لا يتفق مع من ينكر على المسلمات حقوقهن السياسية، وكان المدافع الأول عن قضية تجريم الختان في مصر، وكان يؤكد دائماً أن ختان الإناث لم يأت ذكره في القرآن أو السنة النبوية، وأن الختان في الإسلام للرجال فقط. احترام الخصوم وبدوره يبرز الدكتور محمود مهنا نائب رئيس جامعة الأزهر لفرع أسيوط وأحد تلاميذ الفقيد كثيراً من جوانبه الإنسانية، ويقول: كانت تبرعاته للخير متجددة ودائمة ووصل إجمالي المبالغ أكثر من سبعة ملايين ونصف المليون جنيه أنفقت في بناء المساجد والمعاهد الدينية وعلى طلاب العلم، وتبنيه لأبنائه من حملة الماجستير والدكتوراه، وأنا أول هؤلاء وعندما كنا نذهب إليه في منزله كان يقوم بنفسه بتقديم واجب الضيافة ويعرض علينا المبيت في منزله كي يوفر علينا تكاليف الإقامة والمبيت في أي مكان. ويضيف مهنا: على الصعيد الشخصي فقد كنت ممن تولاهم طنطاوي برعايته منذ التحاقي بالسنة الأولى بكلية أصول الدين فرع أسيوط وحتى حصلت على الليسانس بتفوق، وكان يدافع عن أبنائه الذين يعلمهم كأنهم أبناؤه من صلبه، وكان يلتمس لنا الأعذار، ولا يكلِّفنا ما لا نطيق وكان يعطينا كتبه مجاناً ولا يأخذ منا إلا قيمة الطباعة، كما أن الطلاب في جامعة الأزهر لم يكونوا يدفعون أموالاً نظير الكتب التي يقوم بتدريسها لأنهم يدرسون كتب التراث التي طبعها على حسابه الخاص. ويؤكد مهنا أن فضيلته كان يحترم خصومه العقلاء ولما كان أحدهم يتوفى كان يدعو له بالجنة، ويقول: اذكر من وصاياه لي: صادق الناس بقدر الاستطاعة ومن لم تستطع أن تصادقه فلا تجعله عدواً لك لأن الحياة كسوق انتصب ثم انفض، ربح فيه الرابحون وخسر فيه الخاسرون. و كان مع زهده وتقشفه يميل إلى الدعابة المؤدبة. وكان رحمه الله بحق موسوعة علمية، فقد درسنا التاريخ الإسلامي والتفسير وعلوم القرآن والحديث وهو صاحب أكثر من 50 مؤلفاً معظمها كتابه في التفسير بعنوان التفسير الوسيط، الذي يبلغ 15 مجلداً ضخماً ويوزّع في العالم الإسلامي كله. وحصيلة ما تم جمعه من خلال بيع هذا المؤلف الضخم وزعها كلها على أعمال الخير وكنت شاهداً على ذلك. مؤتمر للصحابة أما الدكتور طه أبو كريشة نائب رئيس جامعة الأزهر سابقاً وعضو مجمع البحوث الإسلامية وأحد تلاميذ الشيخ فيقول عنه: عاش بقلبه ووجدانه وهو يضع الأزهر الشريف أمام عينيه على أساس أنه يؤدي رسالة الإسلام العالمية ومن هنا كانت المتابعة الدقيقة لكل ما يتعلق بشؤون الأزهر الشريف في معاهده الدينية وفي جامعته وذلك من خلال العمل على نشر المعاهد الدينية في جميع ربوع مصر حتى جاوزت الخمسة آلاف معهد، إضافة إلى تشجيع إنشاء الكليات التي شملت كل أرجاء الجمهورية حتى جاوزت 70 كلية دينية وعملية وكان يضع نصب عينيه الحرص على حفظ كتاب الله تعالى لكل منتسب للأزهر الشريف، فرفع شعاره المعروف (من لم يحفظ القران فليس بأزهري) كما كان حريصا على أن يقوم مجمع البحوث الإسلامية برسالته التي أنشئ من أجلها ومن هنا كان يعمل على أن تكون جلساته دورية، إضافة للمؤتمر العام السنوي، وكان آخرها المؤتمر الذي عقد في 27 فبراير تحت عنوان "أصحاب رسول الله" وكأن الله تعالى ألهمه هذا العنوان الذي حشد فيه علماء الأمة للحديث عن الصحابة بما يوقظ المعرفة بهم في قلوب المسلمين على النحو الذي يليق بهم وليكون هذا الموضوع ختام حياته ليلقى بهم أيضاً صحابة رسول الله بعد وفاته ولكي يدفن في البقيع بين الصحابة. ويختم أبو كريشة بالقول: كانت تربطني بالشيخ الجليل رحمه الله تعالى علاقة شخصية قوية حتى إنه كان يعتبرني أحد أفراد أسرته ومن أجل ذلك خصني بأن أكتب عنه سيرة حياته الشخصية والتي تخرج قريباً في المجلد الثالث لسيرة مشايخ الأزهر الشريف.