إن جهاز القضاء، على خلاف الكثير من المؤسسات الإدارية والتنفيذية، هو جهاز شديد التعقيد والأهمية، نظير ارتباطه بمسألة نراها على قدر كبير من الحساسية: وهي مسألة العدالة!! ولا داعي للتذكير بأن مفهوم العدالة يلعب دوراً محورياً وجذرياً في حياة كل أمة وكل شعب، بل إننا لا نلفي شعباً من الشعوب إلا ونجد لديه حداًَ أدنى من مثاليات العدالة. ولو فسد القضاء لفسد البلد كله، ولو تقوّم القضاء لتقوّمت الأمور في مُستوياتها ومُعدلاتها الوسطى على الأقل. وهنا لن نخوض في المعمعة النظرية بشأن القضاء نفسه من حيث ارتباطه بنهوض الأمم وانتشار مبادئ العدالة والإنسانية واحترام الأفراد، فهذا ما أراه من البديهيات التي لا تحتاج للتذكير؛ ولكن سأخوض بقضية أجدها على غاية الخطورة وبالذات فيما يخص أمن القاصرين والنساء على وجه التخصيص، تلك هي قضية «التحرش» و«الاغتصاب» وهما قضيتان أجدهما على قدر من الانتشار المُؤسف، لا سيما النوع الأول منهما. فالتحرش الجنسي هو -غالباً- بوابة تفضي إلى الاغتصاب، ويفترض أن يكون للتحرش عقوبته الخاصة والمستقلة عن الاغتصاب نفسه، ولكن -وبحسب علمي- أنه لا توجد عقوبة قضائية منصوص عليها ضد التحرش بحد ذاته، فهو ملحق بالأحكام التعزيرية والخاضعة لإرادة القاضي لا إرادة القانون والشريعة؛ وسبب ذلك أنه لا يوجد «حد» منصوص عليه من مصادر التشريع (القرآن والسنة) على هذا السلوك الإجرامي واللا أخلاقي، ولكن هذا الأمر لا يعني بأي حال من الأحوال التغاضي عن «وضع» و«ابتكار» عقوبات جديدة وحديثة ضد هذا السلوك، لا سيما وأنه يمكن قياس عقوبة مستنبطة من صريح النصوص الدينية والتجارب البشرية المبنية على الفطرة السليمة، فمثلما تم استحداث عقوبات عسكرية وسياسية واقتصادية، الخ، كذلك فإنه بالإمكان -وطبقاً لهذه الأداة القياسية- أن تستحدث عقوبة بصدد التحرش الجنسي، كما أن هذه العقوبة يفترض أن تتدرج قوتها، بدءاً من التحرش اللفظي وانتهاء بالتحرش الجسماني، وأن تكون ثمة مواد قانونية وتشريعية مؤطرة ومقننة تحارب بطريقة واضحة مثل هذه السلوكيات اللا إنسانية. والاغتصاب هو الآخر، وبالرغم من كونه سلوكاً أكثر قباحة ودمامة من التحرش، بل هو الخاتمة المنطقية والأكيدة له، إلا أنه هو الآخر لا يخضع لمادة قانونية صارمة: ولنأخذ مثلاً قضية فتاة «القطيف» التي تم اغتصابها من قبل سبعة رجال ومع هذا فلم يتم الحكم عليهم بصورة مباشرة نظراً لعدم وجود مادة قانونية تتيح رصد جريمة الاغتصاب بشكل دقيق والمعاقبة عليها بطريقة واضحة حتى جاء قرار الملك عبدالله لينقذ هذه الفتاة من مصيرها المجهول، ومثل فتاة القطيف فإنه قد وقعت حادثة اغتصاب لفتاة «الدمام» المراهِقة بنت الستة عشر ربيعاً التي اغتصبها والدها ومع هذا فإنه لم يحاكم إلا بأربع سنوات فقط وكأنه قد تم إرساله لقضاء فترة نقاهة في السجن وليس أن يُعاقب عقاباً يتوازى مع جريمته! ومما لا شك فيه أن التساهل مع مثل هذه الجرائم لن يؤدي إلا لانتشارها وذيوعها أكثر مما هي عليه في حقيقة الأمر. والموجع أن اليقظة دائماً لا تكون إلا بعد استفحال الداء وانتشار المرض وتناسل الجرائم وتناسخ الخروقات اللاأخلاقية، وكأننا محميّون بمعجزة من المعجزات، أو لكأننا ننتظر أعجوبة من الأعاجيب التي تحمينا، فلا قدرة لنا ولا مشيئة على حماية أنفسنا ولا قانون صارم يحمينا ويردع الشراذم المجرمة. والأغرب من هذا أنه بالغالب لا توجد وقاية كافية أو توعية اجتماعية وإعلامية حول مخاطر مثل هذه الجرائم وكيفية اتقائها والاحتراز منها، بل غالباً ما تُتجاهل ليتم الانشغال بأخبار وقضايا هامشية وربما تافهة قياساًَ بأمن النساء والقاصرين، وبعد أن يقع الفأس على رؤوس الضحايا يُقرع فانوس التحذيرات والتنبيهات ولكن بعد أن يمضي الأوان ويفوت. ومع هذا فإننا لا نعدم وجود التغييرات المتسارعة في الأحكام القضائية، فقديماً لم يكن ليعترف بوجود ما يسمى بالجرائم المعلوماتية، ولا حتى جرائم الابتزاز، بل إن المخالفات المرورية نفسها وحتى غرامات البلدية هي عقوبات (حداثية) بمعنى أنها وليدة اجتهادات العصور الحاضرة والقريبة وليست ذات سند تراثي أو فقهي؛ وهذا ما يدل دلالة قطعية على أن جرائم هذا العصر -ومنها دون شك التحرش والاغتصاب- سيكون لها تأصيل قانوني وشرعي، ولكن السؤال هو: إلى متى تغط تشريعاتنا في سبات غويط لا يكاد يدرك الممارسات الفادحة والمرعبة التي يقوم بها الأفراد غير الأسوياء ضد الفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع؟ وهل بالإمكان أن يكون ثمة (شرع) وقائي يحارب هذه الجرائم المنتشرة قبل وقوعها؟ أم أن التأخر والتكاسل سيكونا المآل الدائم لتحركاتنا القضائية تجاه مثل هذه الظواهر الخطيرة؟