«كلما حللت عقدة.. طال حبل المسافة بيننا».. داهمني هذا المقطع الشعري لعدنان الصايغ وأنا أمضي في محاورة الدكتور مرزوق بن تنباك، فكلما نصبت له شراك الأسئلة، وفي خاطري إجابة «مسترسلة» في سياق التفصيل والإيضاح والشرح والتفسير والتعليل، فاجأني بإجابة «قاطعة وحاسمة ومختصرة»، تحفّ حواشيها «حدّة»، وتظللها «غمامة» تمطر «أسفًا» يتقطّر «انتقادًا» إما صريحًا أو مبطّنًا.. إنه يقول: «ليس لدينا نُخَبٌ بضم النون وفتح الخاء، لدينا نَخْب أول ونَخْب ثاني ونَخْب ثالث بفتح النون وتسكين الخاء، ومن قال غير ذلك فهو لا يفرق بين «النُّخَب» التي سألت عنها والنَّخْب الذي أشرت أنا إليه..»، كما إنه يحيل المجتمع السعودي برمته إلى الاشتغال بالقبلية.. « إذا وجدت أنت أو رأيت في المجتمع السعودي من ليس قبليًّا، أو من لم يدّعِ نسبًا في القبيلة، أو من لم يحاول ذلك، أو من لم يمارس أعراف القبيلة بكل ما يستطيع من صور الممارسة، عند ذلك اسأل عن دور القبيلة..» أما الحوار الوطني في دوراته التي عُقدت فلا يرى فيها ابن تنباك جديدًا.. أنظره يقول: «هذه الحوارات كشفت المستور حتى يتمترس كل منا وراء رأيه، ويعد العدة للانقضاض على خصمه المزعوم حتى يجندله في الضربة القاضية».. وخلافًا لكثير من الدعوات والمطالبات بإنشاء مجمع لغوي سعودي يرى مرزوق أن لا حاجة إلى ذلك بل الحاجة إلى الاستفادة مما أنتجته المجامع اللغوية العربية الأخرى.. لن تعدم الإثارة مطلقًا في هذا الحوار مع الدكتور مرزوق بن تنباك؛ فقط استصحب معك قبل الشروع في قراءة هذا الحوار أنه من مواليد المدينةالمنورة، وأستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض، وله نشاط متنوع في العديد من الجوانب الأدبية والإعلامية والتراثية، منذ أن كان يكتب في الصحافة والإذاعة وهو في المرحلة الجامعية الأولى، وله محاضرات في عدد من الأندية الأدبية والعلمية المتخصصة، وحضور ومشاركة في الكثير من الندوات والمؤتمرات الفكرية، وعضو في عدد من اللجان والمراكز.. * كيف ترى تأثير الطبقة الإنتلجنسية في المجتمع السعودي؟ أظن أن المجتمع لم يصل بعد إلى هذه المرحلة من التقسيم الطبقي نحن في مرحلة التثقيف المشترك والفئوية والشللية التي توهم بوجود مثل هذا التقسيم وهي بعيدة عنه كل البعد. دور المثقف هل هناك فرق بين الطبقة المثقفة وطبقة الإنتلجنسيا؟ حين توجد هاتان الطبقتان فهناك فرق بينهما ولكنه فرق لا يدركه كثير من الناس، فدعنا نبحث عن الثقافة العامة قبل الإنتلجنسيا حتى نفرق بين البعد المعرفي والثقافة العامة. مثقف غير معرّف * برأيك هل ما يقوم به المثقف اليوم من أدوار هي المطلوبة منه بالتحديد؟ لا أدري إن كان المثقف يقوم بدور أو لا يقوم بشيء، المثقف غير معرًّف لدينا وغير متميّز، وأمر المثقف ملتبس علينا ما لم نحدّد ما نريد بالمثقف ومن هو المثقف حتى نطالبه بدوره الذي يقوم به، ثم كيف نساعد المثقف ليقوم بدوره الذي يتطلع إليه المجتمع. النُّخب والنَّخْب * إلى أي مدى أثرت النُّخَب في المجتمع السعودي من ناحية دفع مسيرة التنمية؟ ليس لدينا نُخَبٌ بضم النون وفتح الخاء، لدينا نَخْب أول ونَخْب ثاني ونَخْب ثالث بفتح النون وتسكين الخاء، ومن قال غير ذلك فهو لا يفرق بين «النُّخَب» التي سألت عنها والنَّخْب الذي أشرت أنا إليه. «النُخَب» تأتي من سطح المجتمع كله وتمثّل قطاعاته وفئاته وفعالياته، والنَّخْب انتقاء واختيار محدد من فئة واحدة ومن مكان واحد ودور؛ هذه النُّخَب الذين تسأل عنهم هو حيازة التنمية لأنفسهم والمحيط الذي ينتمون إليه وتهميش من لا ينتمي لنَخْبِهم المفضل. مجتمع قبلي * إلى أي مدى يمكن أن تلتقي أو تسهم القبيلة بشكل أو آخر في تنمية المجتمع السعودي؟ إذا وجدت أنت أو رأيت في المجتمع السعودي من ليس قبليًّا، أو من لم يدّعِ نسبًا في القبيلة، أو من لم يحاول ذلك، أو من لم يمارس أعراف القبيلة بكل ما يستطيع من صور الممارسة، عند ذلك اسأل عن دور القبيلة. المجتمع كلّه تحول إلى قبيلة، لكنه ترك قيم القبيلة وأعرافها، لأنه - أي المجتمع الذي تسأل عنه - لا يريد من القبيلة إلا ما يناسب حاله وما يحقق حاجة في نفسه، ويعطيه أفضلية القبيلة في النسب، وأفضلية القرية في الكسب؛ وليس غير ذلك. نبذ الفئوية * إذا كان الحال كما تصف.. فلماذا إذًا تصر على نبذ القبلية دائمًا؟ لا أنبذ القبيلة ولا أحدًا غير القبيلة، النبذ للفئوية البغيضة التي تنزل فئتها ومحسوبيتها منزلة الوطن وأهله وتتجاهل حقه وتلغي وجوده إن لم يكن من هذه الفئة أو تلك. تغطية الممارسات الرعناء * من واقع معايشتك.. هل ترى تراجعًا للعصبية القبلية أم تقدمًا لها في المجتمع السعودي؟ إذا تراجعت عصبية الإدارة، وعصبية التجارة، وعصبية الوزارة، وعصبية السفارة، وعصبية المنطقة، والمدينة، والحارة، عندئذ تتراجع عصبية القبيلة وأؤكد لك ما أقول. القبيلة ليست عصبية كما يريدها أهل العصبية الذين حوّلوا الوطن وأهله إلى عصبيات ودوائر وثنائيات وصور من التقابلات، وجعلوا القبيلة فزاعة لتغطية ممارساتهم القطرية والإقليمية الرعناء. التناقض سمة الوطن * حفظت القرآن الكريم مبكّرًا في حياتك، وحضرت حلقات العلماء في المسجد النبوي.. فما أثر ذلك على حياتك؟ أثره كأثر المطر في بلادنا. ضد التصنيف * صنّفوك أو صنّفت نفسك على أنك بدوي عصري حداثي تقليدي.. هل يمكن لكل هذه الصفات أن تجتمع في شخص؟ أنا لا أصنّف نفسي ولا أصنّف أحدًا غيري، ويكفيني أصحاب التصانيف وأصحاب المصنفات، وهم ولله الحمد كثير، وأنا أحيل هذا السؤال إليهم بحكم الاختصاص. التأسيس للتناقض * هل ترى بينهما توافقا.. ولماذا انغرس في أذهاننا أنها متناقضة؟ هل بقي في أذهاننا شيء غير متناقض، انظر إلى أقوالنا وانظر إلى أعمالنا وانظر إلى أفعالنا ولا تقسو علينا بالسؤال الذي سيكون جوابه من مسلّمات عصرنا، وهو أن التناقض سمة يُؤسّس لها على حساب الوطن. التعبير عن الاحتباس * كيف تنظر إلى أُطروحات الروايات السعودية اليوم لقضايا مجتمعها؟ أنظر إليها على أنها تعبر عن احتباسنا بين ما نريد وما نستطيع وأرحب بطفرتها بعد عقم طويل وأقول: أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. موسوعة بلا مشكلات * موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية الإسلامية.. هل نالت بنظرك ما تستحقه من إضاءة؟ لا.. لأنها لا تثير مشكلة بل تدعو إلى معروف وتعتمد على موروث وتستشرف مستقبلا وتقدما علمًا نافعًا بلغة سهلة محببة. توسع ممكن * هل في الإمكان توسيع موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث في المستقبل؟ الأدب لا يتوقف حتى تقف الحياة، والحياة سائرة مسرعة في السير ومعها يسير الأدب، والتوسع ممكن في المستقبل، وسوف ترى ذلك وتشاهده إن شاء الله. * أين وصل العمل في الموسوعة الثقافية؟ اسأل وزارة الثقافة والإعلام؛ فجواب سؤالك من اختصاصهم. اهتمام موسوعي * كيف تقيم العمل الموسوعي بشكل عام في المملكة؟ هناك اهتمام بالعمل الموسوعي، وهناك نشاط في التجميع، وأرجو أن يكون بخير، العمل الموسوعي يعبر عن أمل وخوف وقلق على متفرق الثراث وحصيلة الأجيال من مشترك الثقافة. ضد تهويل الأخطار * بعد ما يقارب 30 عامًا على كتابك «الفصحى ونظرية الفكر العامي».. هل ما زلت ترى أن اللغة العربية في خطر؟ مازالت العامية فكرًا، ومازالت الفصحى لغة، وبينهما يستمر الجدل الذي كان منذ كانت اللغة، وسيستمر الجدل، والبقاء للأصلح، وكتابي حلقة في سلسلة طويلة من المحاولات النافعة التي تنظر إلى مستقبل اللغة بأمل كبير، ولست ممن يهولون الأخطار ويضخمونها، لكن أرى ضرورة الاهتمام باللغة ودراسة الطرق النافعة لها. استغلال التقانة * هل ما زالت الأخطار التي تواجه اللغة العربية هي نفسها أم تغيرت مع المستحدثات الجديدة؟ التغير طبيعة الحياة (ومن الذي يا عز لا يتغير)، ولا أريد تضخيم الأخطار؛ بل يجب أن ننظر بالتفاؤل ونستفيد من الممكنات ولاسيما وسائل التعليم والتعلم في العصر الحاضر، واستغلال التقانة ومناهجها الحديثة لنسمو باللغة ونستفيد من الجديد، فطبيعة اللغات واحدة وتقنياتها متشابهه، وأمامنا فرصة لتطوير آليات العمل من أجل اللغة.. أدوار مهمة * أي دور للجمعيات العلمية المختصة باللغة العربية والمؤتمرات في دعم اللغة العربية؟ الجمعيات والمؤتمرات التي تعقد لدراسة ضرورات اللغة وتطورها في غاية الأهمية لأنها تدرس الآليات المبتكرة وتحاول الاستفادة منها وتوظيفها لصالح تعلم اللغة وتعليمها. اللغة كائن حي * هل نحن بحاجة إلى المزيد من الدراسات التي تخدم اللغة العربية؟ نحن اليوم أشد حاجة مما سبق لاتصالنا بالعالم وحاجتنا إليه، واللغة كائن حي، والحي يحتاج إلى الخدمة الدائمة والأمم في كل بقاع الأرض تهتم باللغة لأنها تعبر عن هويتها وكينونتها. لا حاجة إلى مجمع سعودي * كيف تنظر إلى وجود مجمع للغة العربية في السعودية.. ولِمَ تأخّر إنشاؤه؟ اللغة العربية واحدة ولدينا في العالم العربي أكثر من مجمع قائم بالواجب، وبعض السعوديين أعضاء في هذه المجامع، الحاجة ليست ماسة إلى مجمع جديد؛ بل الحاجة ماسة إلى الاستفادة مما أنتجته المجامع العربية وتفعيله. لا جديد * في ضوء مؤتمر الحوار الوطني الأخير.. كيف تقيّم الخطاب الثقافي السعودي؟ الحوار الوطني الأخير مثل الحوار الوطني الأول يجمع الناس ويسمع الآراء وما بعد ذلك علمه عند الله، وعند مركز الحوار الوطني والقائمين عليه والخطاب هو نفسه قبل الحوار وبعده. تشابه واختلاف * خطابنا الثقافي هل يبدو مندمجًا مع نظيره العربي بشكل لا اختلاف فيه؟ الاختلاف وارد والتشابه موجود، والخطاب الوطني والعربي يحتاج كل منهما إلى الصراحة والوضوح بالبيان عن آمال الناس وهمومهم. الحوارات الوطنية بدأت نارها مشتعلة ثم خبت.. إلى أي شيء ترجع ذلك؟ السبب إن كان هناك سبب هو الملل من التكرار والنمطية التي يكرر فيها اليوم ما سمعناه في الأمس ولا يضيف الجديد للقديم شيئًا وهذا هو ما أطفأ النار التي زعمت اشتعالها. تنفيس وتلميس * هل تلمس شيئًا ممّا نوقش أو وصى عليه في كل دورات الحوار الوطني على أرض الواقع؟ لا ألمس شيئًا ولا غيري لمس شيئًا، الحوار جاء للتنفيس وليس للتلميس، والتنفيس يكفي في رأي البعض عن ما سواه من المتاعب والوصايا. ضربة قاضية * هل استطاعت هذه الحوارات أن توضح صورة المواطنة كما تراها؟ لا.. هذه الحوارات كشفت المستور حتى يتمترس كل منا وراء رأيه، ويعد العدة للانقضاض على خصمه المزعوم حتى يجندله في الضربة القاضية. صفة الجامعة * التوسع في عدد الجامعات السعودية هل تؤيده.. وكيف لها أن تنجح؟ أؤيد ذلك بشدة؛ بشرط أن تنطبق عليها صفة الجامعة ومواصفاتها وليس أسماؤها ومخصصاتها. * كيف يمكن تحسين المخرجات بأفضل من السابق؟ عندما نفرق بين الكمية والنوعية، وبين طلب ورقة النجاح تلك التي نسميها الشهادة، وطلب المعرفة لذاتها، هذا هو ما يحسن المخرجات ويجعل لها قيمة. تمديد الابتعاث * تمديد فترة برنامج الابتعاث الخارجي لخمس سنوات أخرى كيف تراه؟ رأيي أن يمدد خمس عشرة سنة؛ بل ألا يكون له مدى، هذا هو رأيي مادامت قدراتنا لا تؤهلنا إلى الأفضل، فدعنا نستفيد مما يمكن أن يقدمه لنا الآخرون، دع من يستطيع من أبنائنا وبناتنا يعيشون مع الناس ويتعلمون معهم لعلهم يفكرون ويفهمون وينفعون بعلمهم. أصوات وليست تيارات * ألا تبدو صراعات تيارات المجتمع السعودي وسيلة هدم؟ ليس في المجتمع تيارات، في المجتمع أصوات، وكل صوت يرتفع بالمسافة التي يسمع فيها نفسه ما يريد ويظن أنه يقول شيئًا أو يسمع أحدًا وما يسمع إلا صدى ما يقول. * برغم ما تقول.. كيف ترى الصراعات التي نشهدها داخل التيار الواحد مثل الخلاف بين أتباع تيار الليبرالية؟ أراها مثل غيرها من الاختلافات تنتهي إلى حكايات للسمر على ضوء القمر أو كيد لعمرو وعبيد. توقيت محسوب * ما هي أبرز مشاريعك التي تعمل عليها مستقبلاً؟ ليس لدي ما أخبرك به، وكل شيء في وقته، ولكل حادث حديث..