قصة جدة ومعاناتها مع الماء قديمة قدم المدينة نفسها التي يرجع تاريخها لأكثر من ألفي عام، فأمطارها قليلة، ومياهها الجوفية شبه غائبة لأنها قريبة من البحر، ومجاري الأودية التي تمر بها نادرا ما تسيل، ولذلك زاد حجم معاناة سكانها من قلة المياه العذبة وسد احتياجاتهم اليومية من المياه النظيفة. وقد عُنِيَ الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه- منذ توليه حكم الحجاز في معالجة هذه المشكلة ورفع المعاناة عن الناس، وقد حرص - رحمه الله - في إيصال العين العزيزية من وادي فاطمة نحو جدة. وقد سجل لنا التاريخ حجم تلك المعاناة في مورثونا الشعبي من الأشعار التي وثقّت الأحداث في أسلوب جميل سهل سلس يربط بين البساطة وجمال الأسلوب، وأعذب أنواع هذا الشعر عندما ينتج من عظم المعاناة وشظف العيش وقسوة الحياة والإحساس الصادق للتجربة الإنسانية.. وقد أعجبني كثيرا وصف الشاعر محمد سعيد العتيبي في قصيدته الهزلية الضاحكة التي وردت في كتاب المرحوم عبد القدوس الأنصاري والموسوم ب « تاريخ العين العزيزية بجدة» حين وصف معاناة أهل جدة في ذلك الزمان من قلة في الماء العذب، وتهافت الناس في الوصول إليه، والبحث عن قطرة ماء تسد احتياجاتهم خاصة في الاستخدامات المنزلية من شرب وطبخ وخلافهما، وقد أحسن العتيبي الوصف حين أوجز في قصيدته الرائعة – باللهجة العامية - حالة الماء في مدينة جدة آنذاك (أي قبل أكثر من 60 عاما) حين قال: يا ذوي الرأي والحجى والكياسه خلصونا من دوشة الكنداسه كلكم تأخذون بالدس ماءً ويجينا البلاء من أجل كاسه لو عطشتم كما عطشنا زعقتم وهرجتم بشدة وحماسه رحمة بالفقير فهو ضعيف بهدل الفقر عقله وحواسه يشتري الماء ( زفة ) بريال بعد أن باع قشه ونحاسه أو يقول المأمور دون حياءٍ خلص (الماء) كسّر الله راسه آه لو شفتم النساء حيارى يتخدعن عمنا حمبظاسه كل عشرين طابقون حمارًا ويل من عضه الحمار وداسه منظر يضحك الخواجات منه والأديب اللبيب من هز راسه جربوها (مأسورة) فوق سطح الأرض تبقى شطارة ودراسه وآهٍ ياليت الشركة الوطنية للمياه تقرأ آخر بيت في قصيدة العتيبي ليريحونا من دوشة (الوايتات) الناقلة للمياه التي تجوب شوارعنا ليل نهار، والتي ما زلنا نعاني منها أشد المعاناة. ومن تلك القصائد الجميلة التي سجلت معاناة أهالي جدة مع الماء، ووصفت ما قام به المغفور له الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - عندما أجرى مياه عين العزيزية من منطقة الجموم نحو جدة في عام 1367 الموافق (1947)، فقد نظم المرحوم الشاعر فؤاد الخطيب - رحمه الله - قصيدة عصماء دونت ما حدث في ذلك اليوم المشهود (وصول مياه العزيزية) في حياة أهالي جدة وإخراجهم من الأزمة الخانقة التي كانوا يمرون بها من قلة للماء وصعوبة الوصول إليه، ففترات الجفاف قد طالت، والمياه التي تملأ الصهاريج قد نضبت، والكنداسة التي تقطر الماء قد تعطلت، وأصبح الناس في كرب عظيم، وقد جاءت هبة الملك عبد العزيز في وقتها وكان لها أثر عظيم في نفوس الناس أغنيائهم وفقرائهم، ولذلك هب شعراء جدة الأوائل في توثيق تلك الأحوال التي غيرت مجرى حياتهم، وجادت بها قرائح شعرهم في توثيق تلك الأحداث كشواهد تاريخية على تلك الحقبة من حياة هذه المدينة التي توصف ب (الرخا والشدة)، وقد وثق الشاعر فؤاد الخطيب رحمه الله تلك المناسبة العظيمة بقوله: سل الدّار والأجيال: هل طلع الفجر على مثل هذا اليوم أو حدّث الذكر؟ فقد سجل التاريخ للجود آية تنافس في تخليدها الشعر والنثر فَهُنِئتَ يا (عبد العزيز) فإنها يد لك عند الله في بذلها الأجر وكم دولة مرت بهم بعد دولة فكانوا سواء عامر الرّبع والقفر وتلك (الأنابيب) الموائل حجة وألسنة ممتدة كلها شكر ويوم غدٍ في كل نبتٍ وزهرةٍ سيثني على آلائِك النبت والزهر رحم الله الملك عبد العزيز آل سعود - طيب الله ثراه -، الذي بدأ مسيرة الماء في جدة ورفع المعاناة عن أهلها، ورحم الله أبناءه الملوك البررة الذين سعوا جاهدين في إكمال مسيرة والدهم المجبول على حب الخير ونفع العباد وتتبع احتياجاتهم وتوفير هذه السلعة الغالية لهم، وبارك في عُمر من بقي منهم، ورحم الله شعراءنا الأوائل الذين وثقوا الأحداث وأبرزوها كما هي الحال في ذلك الوقت العصيب من سيرة حياة أهل جدة المزدهرة دائما وعبر تاريخها المجيد. والله نسأل أن يرفع معاناة المياه عن كاهل جميع سكان هذا البلد الطاهر المعطاء في ظل راعي نهضتنا ووالدنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وحكومتنا الرشيدة التي تبذل الغالي والنفيس في سبيل رفاهية المواطن ورفع المعاناة عنه.