وبدوره يعرّف الدكتور سعد بن محمد النباتي الهذلي أستاذ الفقه بكلية إعداد المعلمين سابقًا فقه التوقع بقوله: “هناك بعض العلماء يفرضون ويتوقعون المسائل قبل وقوعها ويبحثون عن حلولها وأحكامها وهذا هو المراد بفقه التوقع”. وأضاف النباتي: فقه التوقع موجود منذ العصور المتقدمة وهو موجود في المسائل قبل وقوعها وليس فقهًا مستحدثًا، والرائد في هذا الفقه هو الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فمن حرصه الشديد على تعليم أصحابه الفقه وممارسة الاجتهاد والاستنباط يلجأ إلى الفقه التقديري في مجاله، فكان يعرض المسألة على أصحابه ويعرضها على صورها الممكنة والمحتملة، ويبحث معهم جوابها في كل صورة من الصور والأحوال، وكانوا يقيمون في المسألة 3 أيام بلياليها ثم يكتبونها في الديوان كما جاء في مقدمة “نصب الراية”، فالمدونات الحنفية تذكر أن أصحاب أبي حنيفة الذين كتبوها كانوا أربعين رجلاً، وليس هذا الفقه مقصورًا على الفقه الحنفي بل قال به بعض فقهاء المالكية كأسد بن الفرات، والشافعية كالمزني والخطيب وغيرهم من فقهاء العالم الإسلامي، فالتسمية جديدة فقط، وإلاّ الفقه فهو منذ القدم. ومضى النباتي بالقول: أمّا عن حكم فقه التوقع فقد وضح النباتي اختلاف العلماء في ذلك فقال: اختلف العلماء في هذا الفقه الفريق الأول يرى كراهة ذلك، استنادًا لما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم فإنه إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم الحديث، وبما جاء في الموطأ عن سهل بن سعد قال: كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. والفريق الثاني: جمهور العلماء يرون إباحة ذلك، لما روي عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: نخاف أن نلقى العدو غدًا، وليس معنا مدًّا فنذبح بالقصب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ما خلا السن والظفر. الحديث. وأضاف: فالشاهد من هذا الحديث أن الرسول لم يعب مسألة رافع عمّا لم ينزل به، لأنه قال “غدًَا”، ولم يقل له سألت عن شيء لم يكن بعد، ولم يقع، وأجاب الجمهور عن الأحاديث والآثار المروية عن عمر في مسند الدارمي وغيره بما يلي: 1- كراهة الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المسائل إشفاقًا على أمته ورحمة بها، وتخوفًا أن يحرم الله عند سؤال السائل أمرًا كان مباحًا قبل سؤاله فيكون السؤال سببًا في حظر ما كان للأمة منفعة في إباحته فتدخل بذلك المشقة عليهم. 2- يحتمل النهي إذا كان القصد من السؤال على سبيل التعنت والمغالطة والتشكيك والتضليل في أصول الدّين فحمل النهي على هذا كما فعل عمر مع صبيغ. 3- ذكر الخطيب البغدادي في كتابه “الفقه والمتفقه” أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود وغيرهم من الصحابة تكلموا في أحكام الحوادث قبل نزولها وتناظروا في علم الفرائض والمواريث، وتبعهم على هذا السبيل التابعون، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار فكان ذلك إجماعًا منهم على أنه جائز غير مكروه ومباح غير محظور. وقال ابن القيم: “إذا كانت المسألة وقوعها غير نادر ولا مستبعد ويحاط بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت ليعرف ما لا علم له به، ولاسيما إن كانت المسائل يتفقه به على نظائرها ويفرع عليها حيث مصلحة الجواب الراجحة كانت هي الأولى. ونفى النباتي ارتباط فقه التوقع بالتكهن فقال: لا يدخل علم فقه التوقع في التكهن بعلم الغيب، بل هو ينظر في مسائل واقعه واجتهادية ولا تخفى على أحد أمّا التكهن فهو محرم وفيه آثار قطعية على تحريمه، ثم فقه التوقع لا يكون إلاّ من الصالحين كأبي حنيفة والمزني وغيرهم وليسوا ممّن يدّعون الغيب، بل آثارهم معروفة رحمهم الله تعالى، وأمّا التكهن بعلم الغيب فيكون من العرّافين والمنجمين وهؤلاء معروف فسادهم كذلك التحدث بعلم الغيب لا يصدر إلاّ من المنجمين وفقه التوقع يكون من أهل العلم والصلاح، وهو يدور حول مسائل افتراضية ستقع في المستقبل، ووقع كثير من الافتراضات في الفقه الحنفي، أمّا الكاهن فيبنى على استعمال الشياطين ويدّعي علم الغيب مستنجدًا بالشياطين، وهذا شأن السحرة والمنجّمين، أمّا فقه التوقع فيصدر من أهل العلم والخير، وليس يتعرض لأحد بالذم أو الأذى بخلاف مَن يدّعي علم الغيب.