قرأتم، ولا شك، تصريح معالي وزير التخطيط قبل فترة حول الانتقادات التي وجهت لخطط التنمية الخمسية، والذي أرجع السبب إلى سوء التنفيذ. أوافق معاليه تماما مع بعض التساؤلات الإضافية، بل الأحرى التوضيحية، حتى يستقيم لنا فهم ما يخطط ومدى مطابقته لواقعنا المعاش. أفهم أن يكون التنفيذ قد شاب الخطة الأولى، ربما لجدتها علينا باعتبارها الخطة الأولى لقوم لم يعرفوا التخطيط المركزي بعد، من الممكن تقبل نفس العذر لعدم تنفيذ أهداف الخطة الثانية، ربما لأننا كنا نفتقد حينها آليات التنفيذ من كوادر بشرية ووسائل مادية، أمضي إلى الخطة الثالثة وأقول، وعسى ألا أغضب القراء، لم نحسن تنفيذها لأننا فوجئنا بطفرة سكانية ونفطية وأمور أخرى خفية لا يعلمها سوى المختصين في التخطيط ، فوظيفة المخطط دراسة البيئة التي ستنفذ فيها خطته. لكن ما عساي أقول عن الخطة الرابعة والخامسة.. حتى التاسعة، هل يمكن استخدام ذات العذر وذات السبب؟ من فضائل علم الإدارة فصله وظيفة التخطيط عن وظيفة التنفيذ، فالمخطط إذا تولى مهمة التنفيذ قد يتستر على عيوب خطته، وهدف عملية الفصل هنا هو اكتشاف عوائق التنفيذ وتمريره إلى المخطط لوضع الحلول. فهل يعني تصريح معالي الوزير أن هذا التمرير، لنقل التنسيق أو التعاون أو التحاور، أو سمّوه أنتم ما شئتم، لم يكن موجودا؟ هل كان تخطيطا لدولة شمالستان وآخر لدولة جنوبستان أم لدولة واحدة معروفة حدودها ومواردها وسكانها، ولديها جهاز مركزي واحد للإحصاء والتنبؤ بنسب نمو المواليد والدخل والاستهلاك والاستثمار؟ هل كان تخطيطا من أبراج عاجية؟ كيف يمكن لمواطن بسيط مثلي أن يفهم صعوبة التنسيق بين وزارات تقع على شارع واحد، وبين وزراء يجتمعون كل أسبوع تحت سقف قاعة واحدة؟ التخطيط، في واحد من معانيه، هو برمجة لأهداف كبرى في خطوات تفصيلية تنتهي بتحقيقها، هو في أبسط تعاريفه، التعاطي مع الواقع وبناء أهداف عملية لتطويره خدمة لهدف أكبر هو الحفاظ على الموارد العامة وضمان ديمومتها بتجديدها وتنويعها، فأين كل هذا من واقع خططنا العامة. أتذكر أول خطة خمسية قبل أربعين عاما، ولهفنا كطلبة جامعيين للاطلاع عليها بتوصية من أساتذتنا لدراستها وعمل البحوث الدورية حولها، وأتذكر مدى السرية التي كانت تحاط بها، ضُن بها حتى على وسائل الإعلام المحلية، بينما كانت تقام حفلات الاستقبال لوسائل الإعلام الأجنبية لاطلاعهم عليها وكأنها ليست موجهة لمن وضعت لهم. أتذكر ورقها المصقول وأرقامها الكثيرة والكبيرة وجداولها ورسومها البيانية، واقتناعنا حينها أننا وضعنا قدمنا على سلم التقدم والتطور بالطرق العلمية الحديثة. مضت السنون وتخرجنا من الجامعة، وصادف أن عملت مدرسا بالجامعة وطلبت بدوري من طلبتي الاطلاع على الخطة الخمسية ودراستها، وقد أصبحت متاحة، غير أن ما كتبوه لي تجاوز بمراحل مشكلة عدم التنسيق بين الوزارات. والخطة في واحد من أبسط معانيها، هي تمكن المخطط من بلوغ الهدف بعدة طرق، بمعنى وضع بدائل لتحقيق الهدف، وهذا لا يتأتى بدون متابعة الخطة لمعرفة عراقيل تنفيذها، فمهمة المخطط لا تنتهي بمجرد رسم الخطة بل يحاسب على عدم تحقيقها لأهدافها، سواء لسوء تنفيذها أو لبعدها عن الواقع، ومعلوم أن أفضل تخطيط ما يوضع لخمسة أعوام ويراجع كل عام. فهل يعقل أن وزارة التخطيط الموقرة لم تكن تراجع خططها طوال هذه العقود وتكتفي بإبداء ملاحظاتها، برغم أننا لم نقرأ عن ملاحظات للوزارة إلا بعد إثارة السؤال عن بُعد التخطيط عن الواقع. هذا البُعد تحديدا، هل هو مسؤولية بقية الوزارات؟ الخطة تتحدث عن أرقام لا تتطابق مع الإحصاءات المعلنة سواء عن عدد السكان أو عدد المدارس وطلبتها أو عدد المستشفيات ومراجعيها، لا نرى فيها تأثرا بالنسب المتغيرة للدخل أو التضخم أو حتى بنسب التكاثر. على ماذا بنيت الخطط، لنقل من الخامسة إلى التاسعة الحالية، وكيف يتكرر سوء التنفيذ على مدار عشرين عاما ولا تعدل الأرقام على أساس الواقع بدلا من نقلها من خطط سابقة. الإشكال الأكبر حين ننظر للأهداف الكبرى لهذه الخطط، بمعنى أهداف استراتيجية، تنويع مصادر الدخل وأن المواطن هو هدف التنمية وأداتها، كمثال، لن أكرر سؤالي الدائم عن سبب عدم تحقيقهما على مدى أربعين عاما خلت، أسأل فقط عن عدم تحريكهما بدلا من تكرارهما في كل خطة جديدة كعنوان على فشل السابقة في تحقيقهما. ما لا يدرك جله لا يترك كله، كان من الممكن التواضع إلى هدف خلق بنية تحتية لصناعة ما لا تعتمد على النفط وتدر دخلا على البلد، وأفضل من كتب عن ذلك أستاذ الجميع الدكتور محسون جلال، رحمه الله، عندما قال «بتخييط» النفط بالأرض، وفصل مقصده في كتاب سماه «خيار التصنيع». كتب آخرون كثيرون عن خيارات أخر، منها صناديق الاستثمار لصيانة حق الأجيال القادمة في النفط، منها شراء أصول وسندات مضمونة في دول العالم المختلفة ومنها صناديق السيادة الوطنية وغيرها كثير، هل يعقل أن لا تفكر وزارة التخطيط، خلال الأربعين عاما الماضية في سبل أخرى لبرمجة هدفها الأول أو الثاني في عدة مراحل؟ صحيح أن هناك منجزات على أرض الواقع إلا أن معظمها يعود فضله إلى اجتهاد الوزارة المعنية، وبسبب عدم التنسيق هذا نتجت تشوهات تنموية هنا أو هناك لم تنتج لنا قطاعا واحدا رائدا قد تتبعه بقية القطاعات، لم نر تكاملا بين عمل الوزارات بل ربما تنافرا أدى إلى تضارب المصالح وتداخل الأهداف إن لم أقل الصلاحيات في التخطيط.