لقد أضحى الكثير من فرط الكسل الفكري، والخمول الذهني؛ أداةً مطواعة إلى ما يؤمن به الآخرون، دون تفنيد، أو تصحيح، أو حتّى مجرّد قناعة تصبّ في خانة الفعل العقلي والفكري. ومن هنا، يتبدّى لنا المطلب الجادّ نحو الاستقلال بالرأي، وإبداء وجهات النظر؛ كسبب وجيه لخلق رؤى جديدة، وأفكار مبدعة. ولعلي أقول إنَّ وجاهة ما ذهبتُ إليه يكمن من حيث النشاط الذهني المترتب على الاستقلال بالرأي بعيدًا عن الكسل الفكري، المفضي بصاحبه دومًا إلى الدّعة والخمول والاستكانة إلى ما ذهب إليه الذاهبون. إذن، هناك الكثير يعيش حالة من الازدواجيّة الضّارة لا النّافعة؛ فهو يؤمن بالشيء كعرفٍ مجتمعي، وسياق سلفي، وثقافة سائدة بدون الإعمال الذهني، أو الفعل الفكري فيما يريد وما لا يريد مخالفًا في ذات الوقت ما يؤمن به في (المضمر المستكن) في داخله، دون أن يسقطه من (الذهن)؛ لا، لأنَّه حاول -ففي المحاولة نصيب من العقل، ونصيب من الفكر-؛ بل لأنَّه لا يستطيع الفكاك منه فهو مأسور إليه حدّ العبوديّة التي ما أنزل الله بها من سلطان. وهذه العبوديّة لها أسبابها ومبرراتها، وعوامل بقائها؛ فالسياقات المتقاطعة، والمعطيات المتلاحقة التي أخذت نشاطها وحقها في (التّمترس) هي في المجمل سرّ بقائها؛ بفعل الكثير من التّراكمات المكرّسة حتّى أصبحت لازمة من للوازم الضّارة، إن لم يكن الضرر خَبَثًا سيشكل في بعده الزمني آفة تطال جيل أو عدة أجيال. إنَّ الاستقلال بالرأي كما يرجوه العقلاء بأسبابه الوجيهة، ومعطياته الآنيّة مطلب محمود، ومسعى يحمد لأصحابه، إذا بُني على أفهام تعقل أنَّ للمرّحلة ما تقتضيها من التّحفّز نحو الفعل الفكري خروجًا من الخندق الذي ضاق بالجميع. كما أنَّ الاستقلال بالرأي وإعمال الفكر هو في الحقيقة أداة فاعلة في العمل الإبداعي، وهو أيضًا أداةً ناشطة ومحفّزة لخلق ما يرنو إليه المبدع فكرًا ونشاطًا ذهنيًا. فليس من الحق، ولا من الواجب أن نسقط من الحسبان، أو نزعم كما يزعم الجهلة أنَّ الاستقلال بالرأي جريمة كبرى، وشائنة عظمى، متى ما ثبت للعاقل الكيّس خلوص النّيّة وسلامة المقصد. فليس بدعًا إذا قلنا حقًا وزعمًا صادقًا إنَّ الاستقلال بالرأي سيد في حالتي النّجاعة أو الإخفاق؛ بشرطه الأساس، وهو: الاعتقاد بالصّحة، وسلامة المقصد، وخلوص النّيّة. ولا تثريب في الفعل الفكري -خاصّة- إنْ صاحبه بعض الخطأ؛ فإنَّ الحيوانات لا تخطيء في أعمالها؛ وإنّما الخطأ مزيةُ الارتقاء، وكلّما عَظُم الإنسان كَثُر تعرضه للخطأ في أعماله؛ لأنَّها تعظم وتتعدد جوانبها، وتتباعد أقيستها فيطرقها الزّلل من حيث تداخلها أسباب الكمال -كما يقول بعض المفكرين-. إنَّ الاستقلال بالرأي له مطلب كبير، ومطلبه الأساس -كما نعتقد- مساحة كافية من الحريّة المنضبطة، حريّة لا تمنحها في المقام الأول السلطات؛ وإنَّما بما تستسيغه الثقافة السائدة من أنواع الحريّة ودرجاتها. فهناك الكثير من القوانين التي تفتح نافذة على الحرية -كما يقول بذلك الصديق المبدع محمد المحمود-، قد صدرت في أكثر من بلد عربي. لكن، نلاحظ أنّها ما لبثت أن تجمّدت، ولم تستطع النزول بقوة على الواقع، لا لشيء إلاّ لأنَّ الثقافة السائدة تحاصرها، ولا تسمح لها بالفعل. وهذه الثقافة السائدة مثلها كمثل بعض الجبابرة الأقدمين يهدرون دم مَن يغضبون عليه فلا يطالب أحد بحق، وأنَّى له من مطلب أو حق، وهذه عادة باقية منذ استكان الإنسان إلى الدّعة والكسل والخمول، فلا يُستطاع تصحيح معوجّه؛ لأنَّ العرف سابقًا ولاحقًا يهدر دم من يخرجون عليه، ولا يقرّونه على عيوبه، فإذا حقوقهم كلها مضيعة وإذا الإساءة إليهم محللة لمن يشاء كما أراد العرف في زمنه الأول حتّى السّاعة كأنَّما الناس لا ينتظرون ولا يرجون إلاّ التّرخيص منه ليستجيزوا هذه لإساءة التي لا تجوز، ولا ينبغي في العرف المزعوم أن تجاز.