كان عليّ أن أؤدي اختبارًا شفهيًا يخوّلني للقبول في برنامج علمي كبير سعيت إلى الالتحاق به في إحدى الجامعات منذ سنوات، فدخلت بوابتها وأنا أرتجف قلقًا من هيبة هذا الاختبار الذي يقتضي أن أُسْأل فيه عن حصيلة سنوات ماضية وفي مختلف فروع التخصص العلمي الذي أنوي الالتحاق به. وكنت أمشي في ساحة الجامعة في طريقي إلى قاعة الاختبار لا أكف عن ترديد الدعوات التي أطلب فيها من الله تعالى أن يمنّ علي بالأسئلة السهلة وسداد الإجابات عنها، وأعذر في نفسي كل الطالبات اللاتي ألمح بعضهم رائحات وغاديات ممسكات بمذكراتهن يحاولن طبع ما عليها في أذهانهن مع شيء غير قليل من التوتر الذي يصاحب حركاتهن ، غير أن الفرق بيني وبينهن أنهن يؤدين الاختبار في مادة معينة محددة الموضوعات وأنا أجهل موضوع اختباري وأحاول جاهدة تقييد ما شرد من معلومات متفرقة عبر سنين. وعندما وصلت قاعة الاختبار لاهثة من الإعياء والتوتر أخبرتني المشرفة بوصول اللجنة العلمية للتو، وباشتراطها اختبار كل متقدمة بمفردها مع المشرفة عبر أجهزة الاتصال السمعية؛ مما جعل قلبي يهوي إلى أرجلي تهيبًا من الموقف، وكان علينا الانتظار في قاعة أخرى حتى موعد دخول كل منا إلى قاعة الاختبار، فأخذنا في استرجاع المعلومات قطعًا للوقت في جو يشوبه القلق من جراء ما يصل إلى أسماعنا من كلمات متناثرة حادة النبرات من أصوات أعضاء اللجنة وهم يطرحون الأسئلة على المتقدمة الأولى. وما أن كفّت أصواتهم دلالة على الانتهاء، وأخذت أصوات خطوات تقترب من قاعتنا - حتى أيقنت أن دوري قد حلّ؛ فبدأ العرق يتفصّد من جبيني والجفاف يغزو حلقي، وأخذت نبضات قلبي تتسارع وتضرب صدري مصطحبة معها الشعور بالغثيان. ودخلت المشرفة لتدعوني إلى دخول القاعة الموعودة التي ألفيت نفسي فيها وحيدة، حتى صوتي لم يسعفني في النطق باسمي بوضوح عند سؤال اللجنة عنه. وبلغ من اضطرابي وتهيبي من اللجنة أن نسيت إجابة أسهل سؤال طُرح عليّ، واستغربت من تَفلُُّتها من ذهني مع كوني كنت أدرس هذه المعلومة منذ سنوات، فكيف شردت عني؟ وعبثًا حاولت التقاطها من دفتر ذاكرتي، لكنها خذلتني فلم تَنْقَد إلى ذهني طائعة. وما أن انتهيت من الاستجواب وخرجت من قاعة الاختبار الذي بُلّغت فيما بعد بنجاحي في اجتيازه - أدركت بأنني قد مررت بموقف مصغر لما يكون عليه امتحان الآخرة؛ إذ عندما اضطربت عند سماعي بقدوم اللجنة تصورت اضطراب الإنسان عند حلول الموت به والتفاف ساقيه وإقباله على ربه منساقًا، وعندما كنت أنتظر دوري في الدخول إلى قاعة الاختبار وتوتري الشديد عند سماع وقع أقدام المشرفة تناديني ، تخيلت كيف يكون حال الإنسان عندما يوضع في لحده ويسمع قرع نعال أهله مولين عنه إيذانًا بمجيء ملكي الموت فَتّاني القبر لسؤاله وحسابه، وعندما تركتني المشرفة وحدي في القاعة لحظات لأشغال عاجلة استدعتها أدركت ما سيكون عليه حال الإنسان وهو يواجه مصيره وحده في القبر عندما تنقطع عنه الأسباب ويهجره الأهل والأحباب، وعندما تلعثم لساني وأنا أطارد الإجابة التائهة عن ذهني دون أن أستطيع الإمساك بها مع سهولتها واعتيادي عليها أيقنت أن سداد الإجابات في الاختبار الدنيوي توفيق من الله، وهو الذي يثبت عبده المؤمن عند سؤاله في القبر ليسدد إجاباته أيضًا عن أسئلة الملكين التي تبدو لنا سهلة في الدنيا ، ولكن هول الموقف قد يصعّبها على من شاء تعالى. تُرى .. ما نتيجة ذلك الامتحان؟ يقول الشاعر: الموت باب وكل الناس داخله ألا ليت شعري بعد الباب ما الدار؟