لايعرف 99,99% من العرب من هو هوارد زِن. بمعنى أن نسبة الجهل به تفوق نسبة فوز بعض القادة العرب بالانتخابات، وهذا رقمٌ قياسي ليس من السهل تحقيقه.. رحلَ المؤرخ الكبير عن هذه الدنيا منذ بضعة أيام، وكنت أتهيأ للكتابة عنه عندما وصلتني رسالة نعي وافية بالعنوان أعلاه من الزميل المثقف وائل شحادة. استأذنتهُ في نقلها كما هي لأنها معبّرةٌ وتقول كثيراً مما كنت أريد أن أقوله. وها أنذا أورد أغلبها لأعود بعد ذلك بما يمكن أن يحتمله المقام هنا من حديثٍ عن الرجل الكبير. «ريثما ينتهي الإخوة الأعداء من الجدل حول صحة ضربة الجزاء في مباراة مصر والجزائر البارحة، وريثما يتنهي المعلقون السياسيون من المزايدة في كيل المديح والإطناب لخطاب أوباما أمام الكونغرس الأميركي حول حالة الإتحاد، سيمر خبر وفاة المؤرخ والكاتب المسرحي الأميركي هوارد زن دون أن يعيره أحد في عالمنا العربي الكئيب كثير اهتمام أو التفات، ذلك الرجل الثمانيني الذي غير وجه التاريخ الأميركي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. لم يكن زن مؤرخاً وكاتباً مسرحياً فحسب، ولكنه كان ناشطاً حقوقياً وثائراً اجتماعياً ومناضلاً إنسانياً ساهم مساهمة مؤثرة في حركة الحقوق المدنية في الستينات وكان أحد أبرز رموزها في المجال الأكاديمي. تبنّى دائماً حقوق المظلومين والمستضعفين واصطف دون مواربة أو استحياء مع فئات المحرومين المهمشين، ووظّف كل ما امتلك من مؤهلات علمية ومواهب إبداعية للمناداة بالعدالة الاجتماعية ليكون الوطن مظلةً للجميع لا تستأثر بها فئةٌ قليلة منتفعة. كتابه «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأميركية» People's History of the United States، والذي بيع منه أكثر من مليوني نسخة بطبعاته المختلفة (وستصدر منه طبعة منقحة في شهر يوليو القادم) أعاد كتابة التاريخ الأميركي من وجهة نظر الطبقات المسحوقة، من الهنود الحمر والعبيد والنساء والبيض الفقراء من غير طبقة ملاك الأراضي، التي كان عَرَقُها ودماؤها ودموعها وعلى مدى 400 سنة وقوداً لمسيرة جحافل أصحاب المال والجاه والنفوذ والسلطان المظفرة نحو الهيمنة على العالم. واليوم لم تعد تلك الطبقات المسحوقة حكراً على أميركا، ولكنها امتدت لتشمل شعوب العالم المسحوقة بما فيها شعوب منطقتنا العربية والإسلامية وما هايتي منا ببعيد. ولمن يستمتع بتذوق الأدب باللغة الإنكليزية أقول إن الكتاب المذكور لا يؤرخ الأحداث عبر أسلوب أدبي جذاب رفيع فحسب ولكن يمكن أن يعتبر أيضاَ سفراً هاماً في تأريخ أدب المقاومة (الاجتماعية) الأميركي منذ أن وطئت أقدام المستعمر الأوروبي الأبيض أديم تلك البلاد... كان لزن نظرية لافتة في التدريس يلقّنُها لطلابه في الجامعات، أودعها في أحد كتبه واختزلها في عنوان ذلك الكتاب: «لا يمكنك أن تكون حيادياً وأنت على قطار متحرك» You can't be neutral on a moving train ، وهو في نظريته تلك أقرب وألصق وأكثر ائتماناً على فكر مارتن لوثر كينغ القائل يوماً «حيواتنا تبدأ بالفناء يوم نصمت حيال الملمات» Our lives begin to end when we are silent about things that matter من كثيرٍ ممن يدعي به وصلاً اليوم، ويتوسل لذلك لون بشرة مشترك. مثلُ هذه المبادئ جديرة بالاحترام والتقدير والبث والنشر ونحن نعيش عصر حياد الأغلبية الصامتة الخانع، حياد النعاج إزاء جزاريها! طبعاً لن يتوانى المشككون عن الطعن في سيرة زن بالقول أنه يساريٌ متطرف أو اشتراكي النزعة. والرجل لا يخفي نزعته الاشتراكية ولايعتبر ذلك تهمة. بل يشير إلى الاتحاد السوفييتي بأنه المثال العملي الرديء الذي أكسب الاشتراكية سمعتها السيئة. وهو يتبنى أنموذجاً اشتراكيأ يدعو إلى العدالة الاجتماعية مشابهاً لما هو مطبق في بعض الدول الاسكندنافية، ويرافع عن ذلك الأنموذج ببراعة بما أوتي من حجة وبرهان...» انتهى النقل من الزميل. وُلد هوارد زن منذ سبعة وثمانين عاماً لأبوين يهوديين في حي بروكلين بمدينة نيويورك. وكان متحمساً في بداية حياته لقتال النازيين والفاشيين، فأصبح طياراً. لكن هذه التجربة ومارآه خلالها أثّرت كثيراً في نفسه وفي طريقة تفكيره، حيث تحوّل تدريجياً إلى المناهض الأول للحرب في أمريكا بعد ذلك. خاصةً وأنه كان من أوائل من ساهموا كطيارٍ حربي في استعمال قنابل النابالم الحارقة حين قصفَ النازيين في فرنسا مع نهايات الحرب عام 1945م. ولم تمض سنوات حتى أنجز بنفسه تحقيقاً في القضية كشف من خلاله كيف أن الكثير من المدنيين الفرنسيين ماتوا حرقاً جراء القصف أيضاً. لكن ماهزّ كيانه كان اكتشافه بأن أوامر القصف لم تكن ضرورية، فهزيمة النازيين وقربُ نهاية الحرب كانا واضحين، وإنما جاءت تلك الأوامر ممن أصدرها لأن فيها احتمالاً بأن تؤهل أصحابها للترقية في سلك الجيش الأمريكي!.. يمكن أن تتعلم الكثير عن أمريكا وتاريخها من قراءة كتب زن كما ذكر الزميل أعلاه. لكنّ مايبهر في الرجل هو نمطُ حياته وتحديداً قدرته الفذّة على كسر قيود ثقافته القديمة، والانتقال إلى مواقع تفرضها معرفته وخبرتهُ وتجربتهُ مهما كلّفه ذلك. فقد طُرد من عمله في الجامعات بسبب نشاطاته المناهضة للتمييز العنصري والحرب من أيام حركة الحقوق المدنية إلى حرب إدارة بوش على العراق، ورغم قدرته على أن يعيش حياةً هادئة رغيدة كأكاديميٍ ومفكرٍ ومؤرخٍ مخضرم، أبى الرجل إلا أن ينزل بنفسه إلى ساحات النضال مع الشباب والفقراء والنشطاء، حتى اتّهم بجميع أنواع الاتهامات وخاصةً العمالة والخيانة والرجعية. لكن هذا لم يمنعه من أن يتمثّل بنفسه مقولته الشهيرة: «إن المعارضة هي أعلى درجات الوطنية». أختلفُ معه ومع الزميل وائل في الموقف من الرئيس أوباما، وهذا حديثٌ ذو شجون. لكن هذا لايمنع من أن أردد مع تلميذه وزميله في مجلة (الأمة) The Nationديف زيرين وهويقول: لقد فقد العالم مؤرخاً ساهم في صناعة التاريخ. * كاتب عربي