كتب طبيب النفس لولوت عن سقراط وباسكال كتابين يستعرض فيهما السيرة المَرَضية لكل عبقري جاعلا عنوان الكتاب الأول: شيطان سقراط والثاني: تعويذة باسكال. وقد خلص في رأيه أن التميّز والانفراد لبعض البشر له شأن مباشر بالمسّ وأن أي مبدع مسكون من الداخل بالجن أو بالجنون. وقد كتب أفلاطون أيضًا في محاوراته الشهيرة (أيون) التي كانت على شكل درامي عن علاقة الشعر لدى الشاعر وقال أن العلاقة بين الشاعر والشعر متحررة من قواعد العقل والمعرفة وقارنهم بالعرافين. حقيقة وأنا أقرأ هذه الأحدوثة رجعت إلى ذاكرتنا الشعبية وهي تؤسطر حكايات عبقر الوادي أو القرية المسكونة بالجن والتي ينسب إليها كل فائق وجميل, ومن هذه التسمية وهذا التعريف تصوروا للبديع النادر من الشعر ارتباط القرين بالشاعر حيث يوحي إليه الشعر ويلهمه به إلهامًا عجيبًا نادرًا فقالوا بصوت يتسع في تراثنا الأدبي أن كلّ شاعر منفرد فحل لا ينطق إلا عن شيطان ملازم لصيق. والذاكرة الشعبية (الجمعية) لازالت تتحدث عن سقيا الشاعر الفلاني أو ذاك الذي ذهب إلى مغارة جبلية ليفوز بقبس الشعر أو من أتى إليه الجن في المنام وسقوه عسلاً أو حليبًا ليجد نفسه بعد أيام قلائل إن لم يبح بالأمر شاعرًا لا يشق له غبار. ومن كتب التراث التي ترصد الكثير من شواهد علاقات الشياطين بالشعراء كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد القرشي الذي أفرد فصلاً خاصاً بعنوان «شياطين الشعراء» ذكر فيه ما شاع بين العرب من هذه الأقاويل وأورد كثيرا من القصص التي يستأنس بها عند التندر. يحكى أن رجلاً أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعراً فانظره، قال: أنشد، فقال: وَمِنْهُم عمرٌو المَحْمُودُ نائِلُهُ كأنَّما رَأْسُهُ طِينُ الخَواتيمِ فضحك الفرزدق ثم قال: يا ابن أخي! إن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت...! وقد أخذ المؤلف في جمهرته تسمية قرين بعض الشعراء فذكر أن جني الشعر لدى عبيد بن الأبرص اسمه هبيد وللأعشى مسحل ولافظ بن لاحظ لامرئ القيس وهاذرو.. و.. و... وما إلى مثل الهذر المتمادي حد التسطيح في أقوال الرواة! www.almatrafy.com