أصبح التصويت في زماننا هو علامة التحضر، أو ما يطلقون عليه الديموقراطية، ويقصد بها الحرية التقدمية في القول والفعل، والتعبير عن الرأي في مختلف المجالات، فكل عمل ديموقراطي حر يخضع للتصويت غير اننا في الحقيقة مازلنا لا نفرق بين التصويت الحر، وبين التصويت في المآتم الذي هو رفع العقيرة بالصوات والندب، فكلاهما في مفهومنا مجرد صوت، وكلاهما يوجع القلب، ويجلب الصداع، ويورث الخلاف والهم. فكل قضية تواجهنا مهما صغرت او كبرت نطالب بالتصويت لفض الاشكال وحسم النزاع، حتى وان كان بلا معيار او تقنين. نعم التصويت امر حضاري ومطلوب، ولكنه لن يكون فاعلاً الا اذا كانت له معايير عامة، ومعايير خاصة تتناسب مع المواقف التي يتم فيها. لا نريد ان يتحول تصويتنا مثل تصويت الانتخابات العربية التي تكون فيها نتيجة التصويت جاهزة ومعروفة. ولا نريد ان يكون تصويتنا حشدياً يلملم فيه كل الاخوة والجيران، والخدم والحشم، ويجرجرون في اماكن التصويت من اجل تحويش اكبر عدد من الاصوات. كذلك لا نريد الاكثار من الوعود الوردية الخادعة التي تخطف ابصار واسماع المصوتين فتخرج اصواتهم من حناجرهم عالية مجلجلة لهول المفاجأة. كذلك لا نريد ذلك التصويت الذي يخرج من اقصى القصبة الهوائية بعد ان تكون بطون المصوتين قد انتفخت من الوجبات الدسمة من المسطح والمفطح. كذلك لا نريد ان يكون تصويتنا ضمن صفقة تجارية تساوم على الاصوات وتغريها بالمال. كما أننا لا نريد أن يدخل التصويت في دائرة الشللية والصحوبية، لأن كل تلك الصور والأنماط من التصويت هي ما يمكن أن نسميه بالتصويت (التهريجقراطي) وهذا المصطلح من مخترعاتي التي الهمتني بها تلك النماذج من التصويتات التي باتت منتشرة في ثقافتنا. ودعني أخي القارئ أشرح لك مصطلحي المشروح بنفسه، ولكنها زيادة فائدة، فالتعريف مكون من جزئين، الجزء الأول (التهريج)، ونعني به الفوضى وعدم الوعي بطريقة هزلية، والجزء الثاني (قراطي) مقتبس من المصطلح الشائع (الديمقراطي) جلبته من أجل إضفاء النغمة الموسيقية على المصطلح، وحتى يكون على وزنه، ويدخل ضمن التعريفات الاصطلاحية الموثوقة. وسوف أضرب للقارئ، نماذج عاصرتها من هذا التصويت، ويتمثل النموذج الأول في المشهد التالي: حدث وأن حضرت تصويتا لرئاسة جمعية علمية وكان العقل والمنطق يقتضي أن يتم التفاضل والتصويت بين من يمتلكون مؤهلات علمية في ذات الدرجة والتخصص، وأن يكون المصوتون ممن لهم صلة بهذا الشأن، ولكن التصويت (التهريجقراطي) أدخل في الترشيح كل من هب ودب وأخذت المرشحات الأقل تأهيلا من غيرهن يجرجرن الأهل والأقارب، والأحباب والأصحاب، وربما كل من وجدنه في طريقهن ممن ليس له أدنى علاقة بالموضوع لمجرد اكثار العدد، وكانت النتيجة المحسومة هو فوز من لا يستحق المنصب ولا يملك قدرة على إدارته بالشكل العلمي المطلوب ما أدى الى عدم تطور تلك الإدارة. والمشهد الثاني: هو ما نلمسه ونراه في كثير من إداراتنا ومجالسنا في المؤسسات العلمية التي يفترض أن تكون لديها ثقافة التصويت الحر البنّاء، وتعرف أسسه ومعاييره وآلياته. فإن عدمته مثل هذه المواقع فقل على الدنيا الخراب. فاحياناً يتكون المجلس الاداري من عدة لجان متخصصة، غير ان كل لجنة تختلف عن الاخرى في العدد، فربما تصل احدى اللجان الى (6) افراد، وتصل أخرى الى (20) فرداً، فكيف يتم التصويت في شؤون اللجنة المتخصصة ذات العدد الاقل من قبل لجان لا تماثلها في التخصص الدقيق، ولكنها تفوقها في العدد. أليس هذا التصويت هو من قبيل التصويت (التهريجقراطي) لما فيه من عدم ايمان ووعي بمهام التخصص الدقيق والتخصص العام، اضافة لما فيه من مضيعة للوقت والجهد، فتلك اللجنة المتخصصة التي قضت اياماً وليالي في الدرس والتمحيص ذهب دورها سدى، وضاعت جهودها هدراً لقلة اصواتها، وضاع معها كل هدف للتطوير المنشود. إن التصويت الحر هو ان يكون بين افراد اللجنة المتخصصة ذاتها على ما يتفقون او يختلفون فيه اما الامور المشتركة بين اللجان التي تتساوى فيها المعرفة هي ما يؤخذ فيها للتصويت الجمعي. إن اخطر ما في الديمقراطية هو ادعاء الديمقراطية مع الجهل التام بها وبآلياتها. وإن افظع ما في التصويت (التهريجقراطي) انك اذا اعترضت وابديت رأيك فإنه يتم عقاب المصلحة العامة والاضرار بها عن طريق اقصاء رأي المعترض وطرحه جانباً وكأن هذا العقاب هو درس ديمقراطي لكل من تسول له نفسه ابداء رأي معارض ليتنا نتعلم ثقافة التصويت، واحترام رأي الآخرين .