الناس نوعان في تعاملهم مع الكراسي والمناصب، نوع يلعب برأسه الكرسي، فيصيبه المنصب بالغرور والنشوة والسكرة، فيتكبّر ويوغل في غروره، ويسعده أن يصطف الناس على بابه لقضاء حاجاتهم، فيردهم ويخذلهم، ومثل هذا المغرور لديه اختلال وشعور داخلي بالنقص، يحاول تغطيته برداء تكبّره وغروره، وفي الحديث الشريف: “ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلاّ لذلة وجدها في نفسه”، نعوذ بالله من صغار النفس وخستها. أمّا النوع الآخر، من الواثقين بأنفسهم لا بمناصبهم، فيزيده المنصب تواضعًا على تواضع، لإدراكه أن الكرسي زائل، وأن المنصب لو دام لغيره ما وصل إليه. وفي مثل هؤلاء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يُحشر قوم من أمتي يوم القيامة على منابر من نور، يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، نورهم تشخص منه الأبصار، ما هم بالأنبياء، وما هم بالصدّيقين، وما هم بالشهداء، إنهم قوم تُقضى على أيديهم حوائج الناس”. عرفنا رجالاً كثرًا، كان هذا ديدنهم ومنهجهم، منهم من قضى نحبه، ومنهم مَن ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: * أبو الفقراء والأغنياء محمد النويصر يرحمه الله، والحديث عنه في هذا يطول. * الرجل الكبير الكبير محمد نور رحيمي -يرحمه الله- الذي أوقف نفسه على مد يد العون لكل مَن طرق بابه. * رجل المواساة إبراهيم الجفالي يرحمه الله. * رجل البر والإحسان عبداللطيف جميل، الذي كان يضع أمامه بمكتبه الآية القرآنية:(مَن ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة، والله يقبض ويبسط وإليه تُرجعون). * الرجل العملاق محمد سرور الصبان، الذي كان يضع أمامه بمكتبه لوحةً كُتب عليها: “حركات الأفلاك لا تُبقي لأحد نعمةً، ولا تديم عليه نقمةً. فمن ولي أمرًا فلتكن همَّته تقليد المنن أعناق الرجال”. * الرجل الخلوق المتواضع الوديع ناصر العساف يرحمه الله. ويعيش بيننا الكثيرون أطال الله في أعمارهم، وهم أيضًا على سبيل المثال لا الحصر، مع حفظ الألقاب: أحمد مطر، عبدالله الراشد البصيلي، أحمد عبدالوهاب، محمد أبا الخيل، محمد عبده يماني، عمران العمران... الخ. كم أتمنى أن ترتاد مجالسهم، بعد أدوا رسالتهم، وترى عكس مَن اعتكفوا في منازلهم، وأصبحوا نسيًا منسيًّا. وهناك الكثير من جيلك يا مهندس، نهجوا ذلك المنهج الصالح، منهم مع حفظ الألقاب: أحمد عبدالعزيز الحمدان، أحمد يوسف التركي، فؤاد أبو منصور، عبدالله الطاسان، سامي مقبول... الخ. أخي: تأمّل وتفحّص هذه الأسماء جيدًا، واتّخذها لك قدوة صالحة، وضع أمامك لوحة مماثلة كتلك التي كان بعضهم يزينون بها مكاتبهم. أخي: إن أجمل وأصدق مراحل العمر، هي صداقات الصغر، لا صداقات الكراسي والمال والجاه، لم يسعدني الحظ لأكون من ضمن كوكبة أصدقائك في الصغر، غير أن البعض من أصدقاء الصغر يرونك كما أراك، ولسان حالهم ولساني يردد: أمطري جبال سرنديب لؤلؤا وأفيضي آبار تكرور تبرا أنا إن عشت لن أعدم قوتا وإن مت لست أعدم قبرا همتي همة الملوك ونفسي نفس حر يرى المذلة كفرا وأخيرًا عزيزي المهندس في أي موقع أنت، أود أن أذكّرك بقمة التواضع والإنسانية والمسؤولية والوفاء والعطاء والتي شاهدها الملايين على شاشات التلفاز. * أبو الشعب ملك الإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز وهو يتفقد أحياء الرياض الفقيرة، ويتعاطف مع قاطنيها. * سلطان الخير والعطاء، سلطان بن عبدالعزيز الذي ضرب أروع مثل في تواضع الكبار وهو يقبّل رؤوس أبنائه الضباط والجنود البواسل. عزيزي القارئ: إن هذه الأسماء التي ذكرتها سلفًا ليست حصرًا لكل مَن اعتمد التواضع وقضاء حاجات الناس، وارتقى وعلا به المصنب، ولم يغتر به، بل هي بعض من كل، وغيض من فيض، ممّا تزخر به هذه البلاد العزيزة من الرجال الرجال الذين تشهد لهم أياديهم البيضاء في كل مكان من ربوع المملكة. “إنك لا تهدي مَن أحببت ولكنّ الله يهدي مَن يشاء”.