لازال الناس منذ أمد التاريخ ، ومهما تباينت الجغرافيا والسياسات والأديان، لازال الناس يسألون ما سر التداخل بين مصالح السياسي في فن الممكن والتفسير البشري للدين ، كيف وصلنا في التاريخ والعقل الإسلامي إلى تسييس المقدّس وتقديس السياسيّ ، وهل هناك مشتركات بينهما ، وهل مصالح الناس من بين تلك المشتركات ، وكيف السبيل إلى التوفيق بين نظام معرفي يُفترض فيه أنّه يستمدّ قوانينه من السّماء وبين نظام إنتاج أفقي للقوانين كنتاج للمواجهات والتوترات الاجتماعية، والتفاوض بين المصالح، والتشاور بين الأطراف؟ إنّ البنية الأساسية للاستلاب الاجتماعي مردّها الخلط بين الديني والسياسي. فهذا الخلط يخدم ثقافة التخلف في آخر المطاف ويحافظ على وضعية استلاب الناس، فنظام القرارات السياسية عندما يتدخّل في الشّأن العامّ باسم الدّين إنّما يضع قراراته خارج دائرة التّشاور ويجعلها غير قابلة للنّقض والنقد، ويصبح التّقدّم أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. هل يلام السياسي إن بحث عن مايمكّن له السلطة والقوة وتعزيز حضوره وديمومة وجوده، فهذه من سنن الاجتماع الإنساني، في حالة الحكم المطلق الشمولي ، وقد لايلام الديني إن هو أوّل وشرح وفسّر الدين بإمكاناته البشرية ، فهو في النهاية بشر مضطر لظروفه وخاضع لها ، في حالة تشفير الدين واحتكار النص والمعنى ، وبالتالي فالدين ليس بمعزل عن هذه الظروف التي تجعل السياسي والديني يبحثان في المشترك الذي يخدم حالة المصالح الظرفية بينهما .فهل وجد سياسي نقي ودينيّ تقي إذا اجتمعا في الحل والعقد ، إلا النادر جداً جداً ، كالذي من ندرته لم يوجد ، فإذا كانت المصالح العامة تخضع لظرفية القرار والفتوى ، أو إذا اجتمعا في قاسم مشترك ، فالإنسان هو الإنسان سواء كان من رجال السياسة أو من رجال الدين ، لابد أن ينظر للحياة بما يخدم منفعته الذاتية وما يظنه صواباً فيأخذ به ويأمر به ويعتبره الحقيقة والعقيدة التي لامناص عنها ، والملزمة للناس ، وهنا مفصل العقدة، مثل ماكان بين هشام بن عبدالملك والفقيه الاوزاعي، إذ ينخدع الناس فينسون مصالحهم ويؤمون التفسير السياسي للدين والتفسير الديني للسياسة ، فلاتتضح أو تتحقق حياتهم إلا في بُعديّ التلازم بين رجال السياسة ورجال الدين ، وهنا تتمحور حقوق الناس تحت رحمة النافذ الآمر وضليعة النص المقدس الذي فسرته ذهنية الفقيه المسيس . إذًا يجري تسويق الديني الزاهد الورع الذي لايخوض في الحقوق العامة من كمال ورعه ، تسويقه وإعلاء شأنه من قِبل السياسي ، كما يجري تمجيد الآمر فهو ظل الله في الارض بحسب الديني المتورع الرباني ، ومثل هذا التجانس حدث بين المتوكل العباسي واحمد بن حنبل ، وكم يضيع الشأن العام بين التمجيد والتسويق ، فاللوم يقع على الناس بتصديقهم التمجيد والتسويق، فالديني مهما غالى في الورع فلديه حساباته الخاصة التي يمررها على الناس بدعوى حماية التدين ، والسياسي مهما تعاظمت خدمة الدين لديه فهو إنما يرسم خطوط الممكن لذاته ، والخاسر في النهاية مابينهما من مصالح الناس ، فتتعجب حين تسمع دفاعاً مستميتاً من المختول عن الخاتل ، فيدافع عن الديني وكأنه من فواصل الحياة في فهم الدين ، وكأنه أوتي الدين وحده ، ولايدري المسكين أنه يسترقّه بهذا الفهم أو ذاك ، فيسميه الرباني وصمام الامان والذائد عن العقيدة وعن حوزة الدين ، والامام في النهج والطريقة والسنة. ليس هناك إنسان لاينطق عن الهوى والمزاج والظرفية والحسابات الخاصة ، فما بالك إذا تلبس ذلك بالحضور الاجتماعي والإعلامي والنفعي ، فترى الديني يفتي بموضع درهم لم يصله الماء في الوضوء ، ويتناسى ملايين الدراهم التي تعوز الناس وهي بيد القلة النافذة ، لن يكون للدين حضور اجتماعي روحاني فعّال ، ولا للسياسة نظام في العدل وقانون للحقوق ، إلا إذا انفصلت مصالح السياسي عن مصالح الديني الذاتية ،ليس العتب على التاجر الذي يروم تسويق بضاعته يبحث عن الربح ، ولا عن عمالته إذ هم رهن إشارته ، العتب على المشتري إذ يصدق الدعاية بأن التاجر تهمّه مصلحة الزبون ، وهكذا هما السياسة والدين إذا تلبسا بموقف واحد ، موقف الامر والنهي ، وعبر التاريخ ظل الديني تاجرًا بالوكالة عن السياسي . [email protected]