قد نسافر هنا وهناك، ونتعلق ببعض المشاهد؛ وتبقى في الذاكرة الأحداث بما تحمل وبكل ما تحمل من توافق أو تضارب، لكن يبقى الوطن / البيت.. والوطن / المناخ، والناس والألوان، يبقى دور المكان هو الدور الأميز والأبرز العالق دومًا بالذاكرة عندما نستجمع ذاكرة الأشياء، والذي يعول عليه لاستقراء أرضية البيئة والخلفيات الثقافية والاجتماعية. وإذا كان “أريستوفانيس” - وهو شاعر يوناني أثيني مشهور جدًّا ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد - قد كتب العديد من المسرحيات، والذي أكد المهتمون بالبحث وراء أعماله أن الدور الهام لشرح المكان ك(الأرجوا) وهي السوق الشعبي، وال(جيمنازيوم)، وهو النادي الرياضي؛ مما يميز أعماله، نرى أن المكان تأكد في كتاباته واهتماماته لوصف المكان والمباني كما هي، ونرى ذلك أيضًا في الرواية العربية حيث تتجلى الأماكن كما في “زقاق المدق”، و”بين القصرين”، و”السكرية” للأديب نجيب محفوظ، وعند القاص مصطفى نصر في “شارع الهماميل”، وقد تجاوز البعض منهم وصف المكان إلى وصف حالة المباني والأرصفة والأثاث والستائر ونوع الدهان، ونظرًا لأهمية المكان سواء المدينة / القرية.. تلك البيئة المنبع التي نستقي منها تشكيلاتنا الأولى قبل أن تتشكل لدينا معرفة الأشياء بالإدراك الواعي لمنظم الدارس، لعل الناس على اختلاف ذائقتهم لا يجتمعون على حب شيء غير عشقهم للوطن.. الأهل، الوطن.. البيئة، الوطن.. المكان، كما أن روح الفنان وعقله مترابط ترابطًا جنينيًّا بالبيئة رغم أن الفن التشكيلي في حد ذاته قافز للحدود، ومتخطٍ اختلاف الألسنة، لكن يبق الفنان / الإنسان مجبولاً على ثبوت ملامح الوطن داخله. الفنان سعيد العلاوي الإنسان ابن بيئته يملأ صدره فضاء الأمكنة وملامح المدينة (جدة) التي يراها حاضرة الدنيا أمامه هي الحب والطفولة والشباب.. كما أن البيوت / المنازل أهم خصائصه وأدوات التعبير لديه.. يهتم بتفاصيلها ويضيف إليها من وجدانه وخبراته الشيء الكثير، فالمباني هي ذات المباني نستطيع رؤيتها بسهولة ويسر لدى الكثيرين من محترفي تصوير البيوت والحارات والأماكن القديمة والمتهالكة وحتى الأبواب والشبابيك، لكن انظر لتلك التشققات والتصدع في كثير من الجوانب داخل اللوحة، وكذلك الأجزاءالمتهالكة التي كادت من رهافتها أن تنهار، والمشربيات وكأنها تشف وتظهر ما بداخلها.. لعله أنا الذات الفاعلة، وقد تكون أنت والعائلة داخل هذا الوطن/ المنزل خلف هذه النوافذ والجدران، ثم انظر نحو المفارقة والتباين وهو يصر على فصل بعض البيوت عن بعضها الآخر بالألوان الدهان التي تتخلل منزل ومنزل رغم هذا الفصل بين المسافات؛ تبقى البيوت حافظة أسرارها / أسرارنا...، وزميلنا العلاوي يستصرخ فينا التاريخ والماضي، يؤكد في مشروعه على أهمية التمسك بالمكان دون الاتفاق على التعلق به وجدانيًّا وإنما التمسك به عبر وسائل التعبير ولغة الحوار كي لا نفقد الكثير وأهمها هويتنا خلف الأعمدة الخرسانية والبيوت الاسمنتية التي لا دفء فيها.. كذلك محاولات التغريب.. نعم رسالته واضحة وبسيطة وجلية، ولكنه قد يحاور الألوان ويحاول التملص من حارات جدة وينبع التي تخاطره دومًا ويجرب من هنا وهناك ويضيف بعض القصاصات لأوراق حملت بعض هموم المكان لكنه دومًا يسجّل النوافذ والأبواب المغلقة (في لوحاته) ربما عامدًا خلف خوف الإنسان أن يضيع ما بداخله، سعيد العلاوي الإنسان عندما تقترب منه تجد الشخص الدؤوب على تفعيل الفن ونشر الثقافة البصرية هو لا يفتعل شيئًا؛ وإنما يتفاعل مع الحدث ويشارك بالمعارض ليس كيفما اتفق؛ ولكن يسعى للتطوير وكشف المساحات، ولكن يبقى المكان هو أيقونته العزيزة والتي يتمنى أن يحملها فنًّا خالصًا لمختلف بقاع الوطن.