لم يعد التخصص مؤطرًا لصاحبه، ولا محتكرًا له كي يشتغل طيلة عمره على موضوع بعينه، فالعلوم والفنون تتداخل، والاهتمامات والميول تتحكم في توجيه دفة البحاثة والأكاديميين نحو مرادف يغري بالسير إليه، والاجتهاد فيه، وكثيرًا ما طغى الميل المرادف على التخصص في نتاج علمائنا ومفكرينا، بل وسائر العلماء والمفكرين على كوكب الأرض. وغالبًا ما تتقاطع أوجه الشبه بين عدد من ذوي الاختصاص العلمي والأدبي، وأغلب منه ما يظهر من جمع الاهتمامات البحثية عمومًا، والموسوعية منها على وجه الخصوص، بين نماذج من شخصيات باحثة متفردة في ثقافتها ومستوى وعيها وإدراكها لأهمية ما يحيط بها من كائنات ومكونات، إذ إن الأشياء التي يراها العاديون عادية ولا أهمية لها، ترصدها عين الباحث الإنساني بما تمتلكه من مواهب وقدرات لتخرج لنا من العادي أشياء غير عادية، بل أعمق من أن تكون عابرة في يوميات وكلام العابرين. وأزعم أنه لم يمر بي ذكر الموسوعي المصري الدكتور جمال حمدان بكل مؤلفاته العظام وأهمها شخصية مصر، إلاّ وتبادر إلى ذهني اسم الدكتور عاصم حمدان، فالصور الجميلة التي رسمها الدكتور عاصم للمدينة المنورة بحاراتها وأزقتها، ومهن أهلها، وتوثيق مرحلة مهمّة من حياة أهل المدينة مطوفيها، تجارها، أئمة مسجدها، أغواتها، ذلك وغيره يؤكد اعتزاز حمدان السعودية بانتمائه الإنساني والوطني بمكان ولادته، وفترة طفولته، ومرحلة شبابه ووعيه، والمدينة ليست كسائر المدن فهي عاصمة الإسلام الأولى، ومهاجر النبي عليه الصلاة السلام، وبها حجرات زوجاته ومسجده وقبره، وفي جواره بيوت صحابته وأتباعه وأنصاره من الأوس والخزرج، والمدينة بوابة أولى لقاصدي البيت الحرام، وهي ملتقى ثقافات، ومنارة علم، وبرلمان شورى، ومدرسة قوانين وأعراف ضبطت علاقة الجوار وآلية التعامل وفق احترام متبادل وتعايش قل نظيره، وكل ما كتب الدكتور عاصم من تاريخ توثيقي في موسوعته التي بدأها وسيكملها، محل تقدير وإكبار للمعنيين بعلم الإنسان وبيئته المكانية، فالمكان عرضة للتغيير، والإنسان عمر محدود، إلاَّ أن ما يكتب عن حياة يتحوّل إلى وثيقة تاريخية كما يصف الدكتور سعيد السريحي، وهذا ما يجعل البعض يتساهل مع الأحاديث الشفاهية والسرد المجالسي إلاّ أنه يغضب عندما يتحوّل الملفوظ إلى مكتوب موثق. وربما لا يعلم كثيرون أن الدكتور عاصم يقدم عملاً موسوعيًّا بمعنى الكلمة، كونه لم يقتصر في البحث على طيبة الطيبة، بل هناك بحوث عدة عن علماء البلد الحرام، وعن جدة والأمل معقود على هذا الرمز الرائد في تكملة أسفاره عن الوطن بأكمله، إذ هو كما قلت اجتمع مع الدكتور جمال في «حمدان» وفي الخروج من دائرة التخصص الضيّقة إلى رحاب أوسع، يمكن من خلالها معرفة الإنسان بتفاصيل يومياته ومأكله ومشربه، وحتى مراتع لهوه ومرحه، وسيحمد له كما حمد لصاحبه ما أخرجه عن شخصية مصر، فأوجه الشبه بينهما ليست في الاسم فقط، فالدكتور جمال قرأ فى شبابه ما يزيد عن خمسمائة رواية، وكان مغرمًا باللغة العربية وآدابها، إلاّ أنه لغيظ لحقه من بعض أدباء عصره اضطر لهجر الأدب، وعدّ العمل فيه مضيعة للوقت، وممّا يروى عنه أنه وصف أدباء مصر بقوله “لحسن الحظ أنهم تسلقوا ترام العالمية فى غفلة من الزمن”. ولذا توجه للعمل بدأب لتوثيق تاريخ الجغرافيا، بإنسانها وبيئتها وملامحها، ولعل القارئ المعني بهذا يدرك البعد الزمني بين فترة الدكتور جمال الذي وُلد فى مدينة قليوب المصرية فى 4 /2 /1928م، وبين الدكتور عاصم الذي وُلد عام 1373ه في المدينةالمنورة، وتخرج الدكتور حمدان مصر من كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1948م، وحصل على درجة الدكتوراة في الجغرافيا من جامعة ريدينج البريطانية عام 1953م، عن أطروحته (سكان وسط الدلتا : قديمًا وحديثًا) وعمل في الجامعة المصرية أستاذًا، وعندما رأى أن حرية العمل الفكري مقيدة، والظروف غير مواتية للبحث العلمي، قدم استقالته واعتزل الناس في شقته المتواضعة، وتفرغ للبحث والإنتاج وألّف كتبًا هامة منها، شخصية مصر في أربعة أجزاء ويحوي ما ينوف أربعة آلاف صفحة، ونال به جائزة معرض الكتاب من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وله أنماط البيئات، ودراسة في جغرافية المدن، ونزول العرب، والاستعمار والتحرير في العالم العربي. ويجمع عدد من الباحثين على أن الارتقاء بالموروث وعلم المكان وملامح البيئة الشعبية والفولكلور ضرورة موضوعية وملحّة؛ كونها عاملاً مهمًّا في الحفاظ على الثقافة الاجتماعية، إضافة إلى ما تعكسه عن الواقع الثقافي لمختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، ولا غنى عنها لباحث يدرس الواقع سيسيولوجيا، لتحديد الأبعاد المعرفية لتاريخ اجتماعي ما، ومن ثم ربطها بالواقع المعاش والتاريخ المعاصر، علمًا بأن الدارسين لعلم الإنسان يغفلون الدراسة الاجتماعية المبنية على فلسفة جمالية، توضح مساحة ومدى العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع والجماعات الوافدة عليه، وسيرورة العلاقة وقبولها للثبات أو التبدل بين فترة تاريخية وأخرى، في ظل العيش والتعايش ضمن نطاق مكاني ونظام اجتماعي اقتصادي محدود. وأكاد أجزم أن المدينةالمنورة واجهة حضارية ومختبر حقيقي للثقافة الحديثة والحيّة وللأفكار الجديدة والتيارات قبل بروز بيروت، وتعاظم القاهرة، وتفرد بغداد، فالمسجد النبوي بمعلميه وشيوخه من كل المذاهب والأقطار، والدكان السياسي الاقتصادي على رأي عبده وازن، وثقافة الحوار، واندماج الهويات في هوية واحدة، وسعة الأفق، ومفهوم التسامح، والفقه الموسع كل ذلك نتاج تفاعل إنساني مسلم بالفطرة دون تكلّف، وتربطه عرى الإسلام بالمكان وبأخيه الإنسان، والأمل معقود على حبر المدينة المعاصر عاصم حمدان في إكمال الموسوعة عن الشخصية المدنية بكامل تفاصيلها، وهو بذلك جدير، وعلى أمثاله قدير.