بداية نُفي عن الباحث الفيلولوجي الروسي ميخائيل باختين (1895-1975) صفة الشكلانية. وقد نفى هو نفسه بقلمه ذلك. ولعل ممّا يدعم رأينا هذا مقالته الأخيرة؛ التي فرغ منها قبيل وفاته وهي كانت بعنوان “نحو منهجية تجاه العلوم الإنسانية”، فقد باعد فيها بينه وبين الشكلانيين الذين أهملوا المحتوى برأيه كثيرًا والبنيويين الذين عوّلوا بصورة بائنة على العلامة. وفي تلك المقالة ميّز باختين بين النص والأثر الجمالي (Aesthetic Object). وهذا الموضوع الأخير يهمّنا للغاية في مناقشة زملائنا الشكلانيين السودانيين على اختلاف مدارسهم. لكن باختين كثير وهو أحد أعظم المفكرين في الأدب والفيلولوجيا عمومًا ونود هنا خلال مقالات متّصلة أن نقدّم ملامح لأهم جوانب فكره في صلته بقضايانا المعاصرة. عندما وصل باختين إلى مدينة ليننغراد (سانت بطرسبورج الحالية) اهتم بدستويفسكي (ينطق بفتح الدال وسكون السينين والفاء وفتح التاء واهمال الواو وإمالة الياء هكذا: دسْتََيفْسْكي). إذ وفّرت له مواد روايات هذا الكاتب الروسي العبقري خصوصًا روايتي (الإخوان كارامازوف) و(الجريمة والعقاب) مادة غنية ليصوغ انطلاقًا منها أهم نظرياته. اعتبر باختين الرواية عند دستيفسكي عملاً إبداعيًّا يختلف كلية عن الروايات التي سبقته بما في ذلك الرواية عند تلستوي. فرواية دستيفسكي بوصف باختين لها هي رواية الأصوات المتعددة “بوليفونيشسكي رومان”. وقدّم باختين خلال كتابته عن الرواية عند دستيفسكي شرحًا وpolyphony وافيًا لمفهوم تعددية الأصوات المركزي في فهم روايات دستيفسكي والروايات التي على شاكلتها وهي قليلة. إن كل شخصية من شخصيات روايات دستيفسكي لها صوتها الخاص بها ولها حياتها الكاملة داخل النص وهي في حالة علاقة بالشخصيات الأخرى داخل الرواية وأن صوت الكاتب لا يطغى على هذه الأصوات ورواية تعددية الأصوات التي يشير إليها باختين تختلف عن الروايات التي تنسرب فيها رؤى الكاتب عبر الراوي لتؤثر على بناء الشخصيات. وفي اعتقادي أن روايات الطيب صالح هي الروايات الوحيدة في السودان التي بها تعددية أصوات ونحتاج لإجراء دراسات متصلة كي نسبر غور هذا المفهوم وإجراء دراسات تطبيقية عليه في الرواية المكتوبة بالعربية ككل؛ روايات الطيب صالح إذًا بالمفهوم الذي يعنيه باختين ذات جوقة أصوات لا يفرض عليها الراوي أو الكاتب صوته. فكل شخصيات رواياته مثل الزين ومصطفى سعيد وودالريس وبت مجذوب ومحيميد الراوي نفسه ومحجوب كلها شخصيات تقوم بفرض صوتها القوي الذي لا يملك الكاتب أمامه إلا الإذعان التام وإيراده كما هو وفي اعتقادنا أن تعددية الأصوات هي التي فرضت كتابة منسي بالطريقة التي جاءت بها. ولا يمكن فهم تعددية الأصوات لدى باختين بمعزل عن الإنسان حسب ما أوضحته مادة روايات (Unfinalizability) دستيفسكي حالة كونه شخصا غير مكتمل أي مفهوم ال(Unfinalizability) في الإنسان كما لا يمكن فهم المصطلحين معًا بمعزل عن علاقة الأنا بالآخر، فالأنا لا تعرف نفسها من الخارج مهما حاولت لكن يعرفها الآخر في حوارية لازمة في الزمكان وهذا موضوع حلقتنا المقبلة عن باختين.