وصف رحالة أديب طبيب رحلة زيارته الديار المقدسة وصفا شائقا رائعا دافعا للتأمل والتدبر والمقارنة ، وصف خط سيره ، ومحطات تنقله ، ونقاط توقفه ، وشملت رحلته ثول ، ورابغ ، وينبع ، والمدينة المنورة ، ومكةالمكرمة ، وجدة ،ثم المشاعر المقدسة في البلاد الحجازية كما كانوا يسمونها ، ما يصفه كان عبارة عن قهاوي تسكن جنباتها ونواحيها أسِرة ومقاعد من سعف النخل يرمي عليها المارة الموسميون تعبهم ومعاناتهم ، وعشش متباعدة تخفي حياة قاسية ، وظروفا صعبة ، ويحي الطريق بين مكة والمدينة مجموعات من البدو ينتظرون صدقات الحجيج وأعطياتهم ،الفاصل الزمني بين رحلة هذا الحاج وحجاج اليوم ليس طويلا ، ستة وسبعون عاما فقط ، أما الفاصل الحضاري والاقتصادي والثقافي فأعتقد أن كلماتي لا تسعه ، وعباراتي لا تبلغ مداه ، فمن فضل الله ومنته قهاوي الأمس قلاع علمية ، وعششه مدن صناعية ، والطرقات قامت عليها المجمعات السكنية المخططة والمزودة بالخدمات العامة المختلفة ، والمرافق الحيوية ، تغيَر حال البلاد والعباد ، من الضيق إلى السعة ، ومن الفقر إلى الغنى ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن التخلف إلى التقدم والنهضة ، فتح الله على أهل هذه البلاد بركات السماء ، وفجّر لهم ينابيع الأرض ، وما ذلك بحول بشر ولا قوته ، إنها تقوى القلوب التي قرن الله بها الرزق « فمن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب « وبخشية الله واتباع سبيله ، ولا زلنا ولله الحمد بخير وعلى خير تصديقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يزال الخير بأمتي إلى أن تقوم الساعة ، غير أنَ خطرا يحيط بنا من حيث نشعر أو لا نشعر ، فالبركة آخذة بالنقصان ، والأرض تنذر بضيق على أهلها ، على الرغم من ارتفاع الدخل وتنوع موارده ، وذلك سنة الله في خليقته ، لا يغير الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ، فلعلنا في هذه الأيام المباركة نراجع أنفسنا ، ونعود لخالقنا ، نزن أعمالنا ، ونجدد عهدنا بصالح العمل ، لتعود البركة لأرزاقنا ، وأعمارنا ، وذرياتنا ، وأوقاتنا ، المتأمل لحالنا يرثي لخلق المسلم الذي غاب ، ودينه الذي اكتفى بشعائر تُقام بلا تأثير على سلوك و حياة . يتألم تاريخنا ، وتبكي حضارتنا ، وتسخر إنسانيتنا كلما حاصرتها أخبار المجتمع التي تصدر يوميا أعدادا جديدة من الاختلاسات بكل مستوياتها ، والغش بكافة أنواعه ، والمسئوليات الأنانية التي تقتصر على احترام أهدافها وحسن القيام عليها .