بينما كانت المشاعر ملتهبة وسط المأساة التي تعيشها مدينة جدة جاء الأمر الملكي بتشكيل لجنة عليا برئاسة أمير منطقة مكهالمكرمه الأمير خالد الفيصل ليطفئ بعضاً من هذه الحرقة التي يعيشها أبناء مدينة جدة وهم يشاهدون النتائج المأساوية للاستهتار الذي تميز به تنفيذ المشاريع وصرف الميزانيات المخصصة لهذه المدينة المنكوبة . ولم يكن تشكيل هذه اللجنة فحسب برئاسة رجل يجمع المسئول والمواطن على جدارته والثقة بإدارته هو الذي ساهم في إطفاء لهيب هذه الحرقة بل أن الصيغة التي كتب بها الأمر الملكي عكست مشاركة خادم الحرمين الشريفين لأبنائه في جدة الأسى والغضب فهو يقول لأهالي هذه المدينة : ..»وإنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأتِ تبعاً لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإرادة والسيطرة في حين أن هذه الفاجعة نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثيه .. وإن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ماهو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة ، وهو ما آلمنا أشد الألم « . تألم المليك وأتخذ القرار الحازم وشكل لجنة للعمل « بشكل عاجل جداً» .. لا للبحث عن حلول فحسب ، بل لتحديد مسئولية المسئولين عن هذه الفاجعة .. وهم أشخاص تعودنا أن نسمع منهم عند وقوع مآسٍ مثل هذه في السابق يقولون لنا : « إنه ابتلاء من الله « . ويمضون في سبيلهم الذي تعودوا عليه . وعرف الجميع أن ولي الأمر غاضب شديد الغضب ، وأنه لن يترك الأمر يمر بدون حساب ، ولن يترك محافظة جدة لمصيرها الذي تعودت عليه من إهمال ولا مسئولية بعض المسئولين عن تنفيذ مشاريع وبرامج خصصت لها بلايين الريالات .. وعرف الجميع أن يوم الحساب قد حل وأن هناك مسيرة جديدة للإصلاح والمحاسبة في هذه المدينة. وليس من المعقول أن يقال إن الموتى هم المسئولون عما ابتلوا به ، وأن سكناهم في عشوائيات أدت بهم إلى المهالك .. إذ كيف أمكن لهؤلاء الحصول على تراخيص البناء ، وكيف توفرت لهم الكهرباء ، ومن قام بتقديم الخدمات لهم ، ومن سكت عن عشوائياتهم ولماذا جرى هذا السكوت .. وإلى جانب ذلك كيف أمكن للأنفاق أن تبنى بدون أن يتوفر تصريف للمياه متى تجمعت فيها ، وكيف تحولت إلى بحيرات لاصطياد السيارات ومن فيها عند هطول كميات قليلة من المياه . لقد ابتليت جدة بالمسئولين الذين قاموا على أمرها ، حتى وإن كان البعض منهم حقق إنجازات مشهودة إلا أنها لا تسمح لهم بتعريض حياة الناس للخطر وهم يعرفون ذلك .. وكيف يمكن لمجري السيل أن تقطعه المساكن والطرق بتخطيط وتصميم من المسئولين .. وكيف أمكن تجاهل الخلاف الذي كان ضحيته مدينة جدة (وكان بداية الكارثة التي نعيشها اليوم) وذلك حين اختلف المهندس يحيى كوشك الذي كان مديراً عاماً لمصلحة المياه والصرف الصحي ، في أواخر التسعينيات من القرن الهجري الماضي ، وأمين مدينة جدة حينها المهندس محمد سعيد فارسي ، حول التصريف الصحي لمدينة جدة ، وكيف أمكن حينها الترخيص ببناء المساكن عند نهاية مجرى السيل وسده من جهة البحر ( على الكورنيش ) ولم تنفذ شبكة تصريف الأمطار التي كان يبشر بها المهندس فارسي منذ تلك الأيام . ومن ناحية أخرى فلازالت الناس تعيش في رعب من ( بحيرة المسك ) .. ولست أدري من هذا الذي أطلق على بحيرة تجمعت فيها الروائح الكريهة مسمى المسك ؟ .. فلا أحد يعرف ما إذا كانت الأمطار ستنزل بغزارة ( ونحن لازلنا نتحدث عن غزارة نسبية ) خلال اليومين القادمين وستؤدي إلى انهيار هذه البحيرة وإنطلاقها على مدينة جدة لتخلق مأساة جديدة أشد إيلاماً وأكثر ضحايا وتتحول بلادنا إلى أضحوكة في العالم حيث أغرقت مياه الصرف الصحي مدينة فيها.. ليس لنا بالنسبة للأمطار سوى الدعاء أن يصرفها الله عنا . أعجبتني تغطية جريدة (المدينه ) لهذه الفاجعة ، ويوم الثلاثاء الماضي تصدرت صفحتها السابعة عناوين يجدر باللجنة الملكية المعنية بهذا الأمر أن تنظر فيها وأبرزها : « الاختلاف في الصلاحيات قبل ثلاثين عاماً وراء مأساة اليوم « و» دم جدة الضائع توزع بين الجهات والمسئولون يتبادلون الاتهامات « .. وأستعرضت موجزاْ لأمناء مدينة جدة بصورهم منذ المهندس محمد سعيد فارسي إلى المهندس عادل فقيه ، ولمدراء مصلحة المياه والصرف الصحي منذ المهندس يحيى كوشك إلى المهندس محمد بن أحمد بغدادي .. وتذكرت وأنا أقرأ النبذ المتعلقه بهؤلاء المسئولين ما حذر منه المهندس زكي فارسي في عرضه لمشاكل مدينة جدة في الغرفة التجارية الصناعية مؤخراً من أن « بحيرة المسك « أصبحت أكبر من شرم أبحر ، وتهدد بالانهيار والاندفاع إلى مدينة جدة .. وتساءلت في نفسي هل يمكن اليوم إصلاح ما عجزنا عن إصلاحه خلال الثلاثين سنة الماضية . الغضب البارز في الأمر الملكي الصادر بتشكيل اللجنة العليا يبرر الإحساس بأن الإصلاح قادم لا شك فيه ووجود أمير منطقة مكهالمكرمة، خالد الفيصل ، على رأس هذه اللجنة يرفع الآمال بأن الإصلاح والحساب سيتمان بشكل يرضي أهالي جدة .. ولنا أمل في أنه بعد أن تنجلي الأمور ويمن الله على جدة بحرمانها من الأمطار الغزيرة خلال الأيام القادمة أن يجري تشكيل ( هيئة عليا لتطوير مدينة جدة ) على غرار الهيئة المكونة لتطوير مدينة الرياض وبنفس الصلاحيات تكون مهمتها إصلاح الخلل الذي أصاب المدينة المنكوبة وقيادة مسيرة التطوير التي يسعى سمو الأمير خالد الفيصل لتحقيقها لجدة وباقي منطقة مكةالمكرمة .. وكنت سأقول أن تكون الهيئة العليا لتطوير منطقة مكةالمكرمة إلا أنني أشعر بأن مدينة جدة التي أسئ اليها بحاجة إلى اهتمام ورعاية لخمس سنوات على الأقل عبر هيئة خاصة بها .