“آنستكم الرحمة” كانت هذه المقولة الأثيرة عند أبناء جدة، عندما يستقبلون أمطارها، ويستبشرون بها، فيهنون بعضهم، ثم يسارعون إلى جمعها بطريقة مبتكرة حينها في صهاريج المنازل؛ لاستعمالها عند الحاجة. أمّا الأطفال فيلاحقون الأمطار بأهازيجهم الشهيرة (يا مطرة حطي.. حطي). إلاَّ أن مدينتي الأثيرة لم تغنِّ للأمطار هذه المرة، بل انزوت كمدًا في حزنها، وغرقت في سيولها في أيام العيد. عشرات من مقاطع الفيديو والصور، ورسائل القنوات حاصرتنا من كل حدب وصوب، تحكي لنا وللعالم -مع الأسف- مأساة مدينة عقّها الكثيرون. وللعلم فكل تلك التقارير لم تكشف إلاَّ جزءًا يسيرًا من الحقيقة التي شهدتها ثلاجات الموتى، وقصور الأفراح التي تحوّلت إلى سرادقات عزاء لأسر فُقدت جميعها، ولأم تاه أطفالها، ولأب وجد نفسه وحيدًا من الجميع، فقد غرقوا عندما كان بعيدًا، ونحمد الله أن ذلك لم يحدث أثناء الدراسة وإلاَّ لتضاعفت المأساة. تسونامي المصغرة هذه كانت شبه متوقعة بصورة ربما أقل حدّة، حيث يعلم كثير منّا عن حالة التردي البيئي التي تعيشها المدينة، واهتراء بنيتها التحتية دومًا. وقد تحوّل توجس البعض إلى مقالات، والبعض إلى كلام المجالس، إلاَّ أن كثيرًا من أهل العلم حذّر وبشدّة وفق حقائق معروضة، منها مقالات د. علي عشقي، وآخرها محاضرة في الماضي القريب للمهندس زكي فارسي. أمّا مدينتي فحكايتها فريدة من نوعها.. فقد تربص بها الكثيرون، فجعلوها خنادق في هيئة مدينة، ثم ردموا آثارهم سريعًا لتنتظر المدينة جلادها الجديد، وتداولتها أيدي مقدمي الخدمات المختلفة سنين عدة، حيث شنّفت آذاننا طويلاً بثقب مدينتنا من كل أطراف معلّقة لافتاتها الباسمة (نعمل من أجلكم). منذ أن كنتُ في المرحلة الإعدادية، وجدة تُحفر، وأنا وأبناء جيلي عاشرنا تلك الحفريات المتعددة في كل مراحل حياتنا، والمدينة تكبر وتزداد حفرياتها، واسألوا أرصفتها المسكينة كم ذاقت من الأهوال، وكيف تحمّلتها لأجل إنهاض بنيتها التحتية لما يقارب الثلاثين عامًا. نعم.. إن للمدينة إرثًا ثقيلاً من الأخطاء المتراكمة عبر الآخرين أيًّا كانوا، إلاَّ أن إصلاحه كان إلزاميًّا، وواجبًا منذ اكتشافه، ووضع اليد على فداحته. وهل كان لزومًا علينا أن ننتظر (الكوارث الطبيعية)، كما سمّاها بعض مسؤولي الأمانة، والتي تودي بحياة العشرات، وتُيتّم، وترمّل، وتخرّب المنازل والممتلكات؛ حتّى نهبّ مسرعين إلى خطط الطوارئ.. إن المواجهة الطارئة واجبة، وهامة، ولكنها ليست حلاً أساسيًّا. فإن كانت مصارف السيول مغلقة بالتعديات، والمعلومة عندهم واضحة، فتلك بحدّ ذاتها كارثة حين لم يعمدوا إلى إزالتها، وإحداث مصارف بديلة للطوارئ. فالدراسات، والاستشارات، والموافقات، والاعتمادات تحتاج وقتًا طويلاً، والكوارث لا تنتظر أحدًا. إن في هذا استهتارًا بالأنفس والأموال، يجب أن يُحاسب المسؤولون عنه؛ لأنهم بهذا كمن وضع المدينة في زجاجة مقفلة، وسلّط عليها الماء. أمّا العشوائيات.. فلا نستطيع أن نلقي كل المسؤولية على وجودها؛ لأنهم لم تهبط من السماء، ولم تنبتها الأرض فجأة، بل يعلم الجميع باتّساعها السرطاني، حيث طوّقت المدينة بحزام من نار اجتماعيًّا، وبيئيًّا، وحضاريًّا. وهي خديج الأمانة أولاً وآخرًا.. فعلى امتداد عقود من عمر هذه العشوائيات مَن أعطى للمستثمرين المخططات -وللملاك رخص البناء والكهرباء- أمّا الطرق فأقيمت بالبركة، وكيف نغفل عن كل سلبياتها، ثم نكتشفها فجأة، ونعلّق بها كل الأخطاء؟ أم أنها هي التي كشفت نفسها قسرًا لنا وللعالم. قيل الكثير من الكلام الاستهلاكي الذي يبرر، ويطمئن، ويربت على الخواطر، ولكن صوت الواقع أعلى وأعلى يقرر أن المدينة لم تعد بحاجة إلى حلول مؤقتة، وبرامج إنقاذية طارئة، بل فعل حقيقي جاد، يصحح أخطاء الماضي والحاضر. فلماذا تظل الأمطار بعبع جدة طوال هذه السنوات، ثم تنعش المليارات التي تصرف لبنيتها التحتية أحلام سكانها الوردية بالتخلّص من هذا البعبع الذي يطل برأسه كلّما لاحت السحب في السماء منذرة بالمطر؟ ألف سؤال تطرحه المدينة، وأبناؤها، وتطلقه في كل الجهات، وعلى الجسور المنهارة، والأنفاق المغلقة، والسيول الطينية التي غمرت الجميع: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ هي أسئلة مدينتي التي أبكتها الأمطار.