كلما تعرضت مدينتنا جدة لغزير الأمطار شكت إلينا ما نالها من الإهمال، فنحن نرى مدناً في الشرق مثل كوالالمبور وأخرى في الغرب مثل لندن مدينة الضباب، تتعرض دوماً لمواسم أمطار غزيرة متلاحقة، ولكنها أبداً لا ترهقها، لأنها خططت على أساس مواجهتها، وتصريف مياهها، حتى إنك لا ترى في شوارعها مستنقعاً من تلك المياه، والأمطار تهطل، فما بالك أن يوجد بعد انقطاعها، أما مدينتنا فتغرق كما يقولون في شبر ماء، فأحياؤها لم تخطط لمواجهة أي نوع من الأخطار، والبناء فيها يتم في أكثر الأحيان عشوائية، ففيها وحدها خمسون منطقة عشوائية، لم تراع قط فيها مجاري المياه ولا وجهتها، ولم تصنع لها شبكة تصريف لمياه الأمطار. كما أنها ليس لها شبكة تصريف لمياه المجاري، وبنيتها التحتية هشة، لا تلبث أن تنكشف شبكات كهربائها وتلفوناتها، وتهتز كباريها وجسورها لمجرد أن تعرضت ساعات قليلة للأمطار، رغم أنها لا تتعرض لها إلا نادراً، وأما السكان فلم يدربوا قط لمواجهة أي خطر، ويجهلون التصرف السليم عند مواجهته، والتجربة التي لا تؤسس لتصرف أسلم وأحكم في مواجهة ذات الخطر هي أن قد ضعفت العقول عن إدراكها أو غفلت، فلا نزال نذكر المرة السابقة التي تعرضت فيها مدينتنا لغزير الأمطار، وخلال ساعات جعلتها مدينة مقطعة الأوصال، تضررت مبانيها وأصبحت شوارعها أنهاراً لا يمكن قطعها إلا سباحة، والغريب أنها مدينة ساحلية والذين يتقنون السباحة من سكانها قلة نادرة، وأحاطت المياه ببعض مدارسها حتى أصبح إنقاذ من فيها مهمة صعبة للدفاع المدني، وهذا هو الحدث يتكرر مرة أخرى يوم الأربعاء 8/12/1430ه وآثاره تتضاعف حتى أصبحت كارثية، وتعيش مدينتنا المأساة التي لم تنته بعد، وأملنا أن ينبه هذا جميع الأجهزة المعنية في المدينة لما لم تقم به من المهام المناطة بها، لتحمي هذه المدينة التي افتخرنا بأنها عروس البحر الأحمر، فلم تصنع هذه الأجهزة شيئاً يجعل العروس تحتفظ بنضارتها ورونقها لعشاقها، وأهملت كل شيء فيها حتى تشوهت صورتها تماماً، وأصبح العيش فيها له تكاليفه الباهظة والصعبة جداً، التي تجعل الكثيرين من سكانها يتمنون أن يرحلوا عنها، وقد أصبحت تؤذيهم بتلوث هوائها وبحرها وجروح طرقاتها، وازدحام السير فيها حتى أصبح قضاء الحوائج عناء يومياً لسكانها، لا يتحمله سوى من جبلوا على أعظم الصبر، ولا تزال تنتظر العمليات الجراحية لهذه الشوارع التي لم يخطط لها عند النشوء، ثم لم تراع لها حرمة عند الاستخدام، وهذا الذي مرّ بجدة ليس أمراً هيناً يمكن ألا يستفاد منه لمواجهة خطر حقيقي تنتج عنه الخسائر المادية الفادحة، وتزهق فيه الأرواح بالجملة، بفعل أمطار لم تستمر سوى سويعات، إن التجارب القاسية إذا مرت ولم تستفد منها دل ذلك على عظيم الإهمال، الذي يجب أن يحاسب عليه المسؤول عنه بشدة، فخطابات التجميل والتبرير التي اعتدنا عليها عبر وسائل إعلامنا يجب أن تتوقف، فهي الخطر الحقيقي الذي يجعل الأخطار تستفحل ويجعل الناس أكثر لا مبالاة بما يوكل إليهم من مهام بحيث لا يقومون بما أوكل إليهم، وإذا وقع بسبب إهمالهم ما لا تحمد عقباه واطمأنوا أن خطاباً مبرراً مجملاً لإهمالهم سينطلق ليرد على كل منتقد، ولعله اليوم سيكون أكثر حضوراً، فنحن في موسم الحج، الذي تهدده أمراض، والجنوب من بلادنا يتعرض لتسلل خطير تواجهه قواتنا المسلحة بكل بسالة، فالحديث عن إهمال مدينة هي في ما اعتقد كسائر مدننا حتى اليوم لم تأخذ حظها من الاهتمام ولم تكتمل لها البنية الأساسية، لمواجهة كل الأخطار والكوارث، قد يجد فيه البعض انشغالاً بالحدث الأدنى عن الحدث الأكبر، الذي يجب أن نكون في مواجهته صفاً واحداً، كما هي عادة المبررين دوماً فلا تطرح قضية إلا رفعوا أصواتهم ليس هذا وقته، ولماذا تذكر السلبيات ولا تذكر الإيجابيات، فيختلط الحق بالباطل وتمر التجارب الأشد قسوة ولا يستفاد منها، إننا يا سادتي إن لم نمارس النقد الذي يكشف ألوان القصور وتنوع الأخطاء وأشكال التصرفات الضارة متعمدة كانت أم مورست بحسن نية، فلن نقوى على مواجهة الأخطار طبيعية كانت أم مفتعلة، فسلوكنا تجاه هذه الأخطار يحتاج إلى مراجعة دقيقة وصريحة، بل إلى محاسبة شديدة لكل ممارس للفساد إدارياً كان أم مالياً. ولا بد أن نستفيد من تجارب الأمم حولنا فننشئ إدارة لمواجهة الكوارث لا نبخل عليها بالمال، ونوظف لها أعلى الكفاءات لمواجهة كل خطر قادم، فلم يعد لائقاً أن نكتشف أن ليس لدينا الخطط المتقنة لمواجهة الكوارث ولا الوسائل الحديثة لها، ونفاجأ كل يوم بأحداث تقع ونكاد أن نكون عاجزين عن مواجهتها، لأننا لم نعد العدة لذلك مسبقاً والله ولي التوفيق.