من الفراغ تكون الصبوة، وتحصل النزوة، وتحدث الخطرة، والفراغ بستان الأماني، وعش الوساوس، ومستودع الأراجيف، والفراغ صحراء جرداء من التيه، يضل فيها العقل، ويعمى فيها البصر، ويذهب فيه الرشد، وفيه يزحف الخوف بجيوش الخيال، ويقبل ليل التوقع بكتائب المصائب، والفراغ فرصة لروغان الذهن عن الجادة، وميل الفهم عن السداد، وهو خربة للشيطان، ومزرعة للهو والعصيان، وهو نعمة قلما تشكر، وهبة ما أكثر ما تكفر. في الفراغ يفد هاجس الانحراف إلى الذهن، فكم فكر فيه وقدر، فقتل كيف قدر، وفي الفراغ تضخم الأشياء، وتكبر الصورة، وتهول الأحداث، لأن أصل الطبيعة يميل إلى الخوف والتردد والشك والقلق، ومع الفراغ تنبت هذه الأعشاب، وتقوى هذه العواصف، وقد عدّ الصينيون الفراغ بيت الجنون، وذكر الأميرال برايد في كتابه الشهير: "وحيداً": أن الأيام في الفراغ مظلمة كالليالي. وقد ذكر الفراغ أبر الناس، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ". لأن من الناس المريض الفارغ، والصحيح المشغول، والمريض المشغول. ولكلٍ عذره، لكن الصحيح الفارغ ما عذره في تصرم الأوقات، وضياع الساعات، وذهاب اللحظات، وقد ذكر عمر – رضي الله عنه-: أن الفراغ غفلة، وقال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة فالفارغ كالحالم في منامه، يبني دوراً، ويشيد قصوراً، فإذا استيقظ وجد عمله بوراً، والفارغ كالذي يكيل ماء البحر، لأن البحر لا يكال، ومعرفة قدره من المحال، والاشتغال بذلك من أتفه الأشغال، والفراغ يشجع على الاضطراب والكدر، ويجلب الهم والضجر، ترقص فيه النفس على أوتار الأماني، ويتمايل فيه القلب على إيقاع الأراجيف (يحسبون كل صيحة عليهم) والفراغ مرض قديم، طبيبه العمل، وعلاجه الجد والمثابرة، وإلا فتك وقتل. في الفراغ تُعطّل الواجبات، وتُعزل الفرائض، وتُصادر المهمات، وتُعظّم السخافات، وتُذبح الحياة، كل مفلس سوقه الفراغ، وبضاعته التسويف، ورأس ماله الأماني، جلب الشيطان المعصية على مطية الفراغ، من بادية الإهمال والخذلان، إلى حاضرة اللهو واللغو، فساومه بها كل سفيه غاوٍ: فلا تلقّوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد، في الفراغ تشتعل نار الإشاعة، وتعظم شجرة الوشاية، وتتفجر براكين الوعود الكاذبة، والأفكار الخاطئة، والأقاويل الآثمة، والفارغ صفر من الخير، ورقم في الحاشية، وخط على ماء، وسراب بقيعة، لأنه فقد معنى الحياة، وقيمة الزمان، وثمن الوقت، وجلالة العمر. الفلك يدور، والشمس تجري لمستقر لها، والقمر قُدِّر منازل، والصبح يتنفس، والليل يعسعس، ولكن الفارغ واقف ينتظر، جامد لا يتحرك، قائم لا يمشي لأنه أخلد إلى الأرض.