لا يختلف اثنان على مكانة الوطن في نفوس ساكنيه وعشق محبيه.. فحب الوطن فطرة في النفوس البشرية؛ بل يتعدى ذلك من الإنسان إلى سائر المخلوقات الحية؛ فالطيور وإن طارت فإنها تحن إلى عشها وتشتاق إلى أوكارها والخيل وإن سابقت فإنها ترجع إلى اسطبلها ، وكل يحن إلى مأواه. واليوم الوطني في أي دولة من دول العالم هو الموعد المحدد للاحتفاء بمولدها كأمة والاحتفاء بها كدولة ذات سيادة ويأتي ذلك لكي يدرك الجميع أن احتفاء الدول بأيام استقلالها وتأسيسها ليس مناسبة عبثية بل هو لحظة رمزية ثمينة لإبراز الهوية الوطنية والاعتزاز بها. وتحتفي المملكة العربية السعودية في الثالث والعشرين من سبتمبر من كل عام بيومها الوطني تخليداً لذكرى توحيد المملكة وتأسيسها على يدي الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله. إن ما يتم تفعيله من مناشط داخل المؤسسات التربوية مؤشر إيجابي على التفاعل مع هذه المناسبة، لكن علينا أن ندرك أن قيم الانتماء والمواطنة لا يمكن غرسها في نفوس الأجيال من خلال يوم واحد في العام أو احتفالية قصيرة؛ لذا فإنه يقع على المؤسسات التربوية مسؤولية كبرى تجاه تعزيز هذه القيمة. وهنا يأتي دور القادة التربويين في توظيف هذه المناسبة لتحقيق المواطنة الحقة وفق منهجية واستراتيجية طويلة المدى لا سيما ونحن نعيش في عالم مضطرب يموج بمتغيرات شائكة تشكل تهديداً على كثير من البلاد. وليس بخاف على أحد ما تواجهه التربية اليوم في كثير من المجتمعات من تحديات ومتغيرات، لعل أخطرها العولمة، والتي تحمل في مضامينها تهديداً كبيراً لكل المجتمعات. فمع العولمة لم يعد العالم كما عهدناه فيما مضى، فالحدود الثقافية في طريقها إلى التلاشي، مما يسمح بانتقال كثير من الأفكار والمعتقدات التي تكاد تقضي على الخصوصية في كثير من المجتمعات، وبالتالي لا يبقي للمكان والتاريخ أي معنى في ظل السعي إلى عولمة التربية، وهذا لعمري أخطر ما تواجهه الدول المتقدمة والنامية من خلال التأثير في مقومات المواطنة والولاء عند أفرادها ومن ثم فقدان الهوية الثقافية وتلاشيها. وحيث أن التقدم الحقيقي للوطن في ظل تحديات القرن الجديد ومستجداته تصنعه عقول وسواعد المواطنين، فإن إكسابهم قيم المواطنة يعد الركيزة الأساسية للمشاركة الإيجابية والفعالة في التنمية. وفي هذا السياق تؤكد الدراسات على ضرورة الاهتمام بالتربية من أجل المواطنة لتماسك الأمة، وعدم فقدان الهوية الثقافية وبخاصة في أوقات التحول الاجتماعي والأزمات القومية، والتأكيد على منظومة القيم التي تشكل خصوصية الثقافة من قيم وعادات وامتداد تاريخي فالتربية من أجل المواطنة تعني: أن نغرس ونعمق في عقول ووجدان أبنائنا تلك الفضائل والعادات والمهارات والاتجاهات الضرورية لبناء الوطن فالمسألة إذن أكبر وأعمق وأوسع من مجرد تعليم الطلاب مادة دراسية هنا أو جزءاً من مادة دراسية هناك (فرج، 2004، ص34) ومن أخطر ما تصاب به المجتمعات هو انخفاض "معنى الوطنية" لدى أبنائها؛ الأمر الذي يعني فقدان حيوية الأمة ووهن إرادتها وانخفاض مستوى الطموح الحضاري؛ ومن ثم فإن ضعف الشعور الوطني والخلل في بنية قيم المواطنة يعد من أخطر القضايا التي تهدد الشباب -أعز ما تملكه مجتمعاتنا من ثروات- لما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الانتماء وإدارة العمل والإنجاز، واضطراب المعايير والرؤية حول مكانة الشباب في صناعة المستقبل والإسهام التنموي. أجريت دراسات حول المواطنة، ولفت انتباهي ماتوصل إليه أحد الباحثين في إحدى الدول العربية من ضعف وندرة في الدراسات العربية في مجال المواطنة وأن الدراسات العربية تقتصر على حيز التركيز على الإطار الفكري والمفاهيم؛ بينما تركز الدراسات الأجنبية على الآليات الفعلية الهادفة إلى نشر قيم وثقافة ومبادئ وأعراف المواطن الحقيقي وزيادة الوعي بشروطها والحقوق والواجبات التي يحددها الشارع والقانون ودور التعليم في دعمها وتعزيزها من خلال برامج تخضع للفحص والتقويم بشكل مرحلي. ولعل القارئ يتفق معي على وجود مؤشرات تؤكد أن مؤسسات التعليم تعاني من أوجه خلل ترجع في جانب كبير منها إلى ضعف الاهتمام بتفعيل قيم المواطنة وانخفاض ممارستها في الواقع؛ ومما لا شك فيه أن للقيادة التربوية تأثيراً لا يستهان به في التغيير المنشود ، ذلك أن القائد التربوي هو حجر الزاوية لأية عملية تنشئة، بل إن دوره في تنمية قيم المواطنة يفوق في كثير من الأحيان دور المناهج التعليمية؛ فهو يسهم بدور كبير ومؤثر في التأثير على الأتباع؛ ومن ثم فإذا تعلم القائد كيف يحيا مواطناً متفاعلاً واعياً مشاركاً فإن ذلك سوف يؤدي إلى أن يشارك بفعالية في الحياة العامةوتصبح المشاركة نمط حياة أكثر منها معلومات يتعلمها ويرددها وهنا سيقتفي أثره الكثير . ونظراً لأهمية الدور المحوري للقادة وتأثيرهم فإنه يقع عليهم مسؤولية كبرى في تعزيز المواطنة، وهنا يحسن بنا أن نتساءل: مادور القيادات في تعزيز قيم المواطنة؟ إن تعزيز الولاء والانتماء وتكوين القيم والاتجاهات شرط للقيادة الناجحة ومطلب رئيس في الإدارة الحديثة، وإن أبرز دور للقادة التربويين هو ربط قيم الانتماء للوطن بقيم الانتماء للأمة الإسلامية وإلى العالم أجمع، حيث أنه من المسلمات أن المملكة هي قلب العالم الإسلامي وقبلته، وأن هذه الميزة التي خصها الله تعالى بها تجعل المواطن لا إراديا يستشعر انتماءه للعالم الإسلامي بنفس الوقت الذي يفخر فيه بانتمائه لهذا الوطن. لم يشدني شيء قدر ذاك الخطاب المؤثر من أحد القادة العسكريين في أحد مواسم الحج وهو يستحث همة العاملين معه في خطاب ملهم وكان مما قاله: "يجب أن نحسن العمل مع قاصد بيت الله حتى لو أساء لنا يجب أن نتحمل لأننا رجال أمن ونمثل الدولة" ماذا لو استشعر كل قائد تربوي أنه يمثل الدولة؟ وأنه ينتمي لبلاد الحرمين محط أنظار المسلمين؟ وأن خطواته محسوبة عليه؟ لاشك أن المعادلة ستختلف حتماً. ومن الأدوار المناطة بالقائد التربوي: حسن إدارة الموارد واستثمارها الاستثمار الأمثل سواء المالية أو البشرية. وأعتقد أن أكبر مؤشر على المواطنة لدى القائد أن يحرص على إدارة المال العام أكثر من حرصه على إدارة ماله لأنه مستأمن عليه من الله أولا ثم من الدولة. تولية الأصلح والأكفأ فالقائد التربوي مستأمن على استقطاب واختيار الكفاءات وفق الجدارات والمعايير بما يحقق المصلحة العامة للمؤسسة التي هي فوق كل اعتبار، وأظن أن هذا من أكبر المؤشرات على النزاهة والمواطنة الصادقة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ 0سْتَْٔأجرت 0لْقَوِىُّ 0لْأَمِينُ). المحافظة على الهوية والثوابت؛ مع مواكبة التطور والمنافسة عالمياً جنبا إلى جنب لا تعارض بينهما فللمواطن السعودي هويته الخاصة لابد أن يحافظ عليها في أي موقف ومحفل؛ وإن خير من يبرزها: القائد التربوي. إبراز الرموز المخلصين الأوفياء ودعمهم وإبراز جهودهم، فالذين يريدون الخير والنماء لهذا البلد بصدق هم من يستحق الإعلاء، وينبغي للقائد التربوي ألا ينساق لتلميع من لا يستحق فأمامه جيل لازال محط نظره ومحل ثقته، يرمق تصرفاته ويتأثر بخطابه فليستثمر هذه الثقة وليوظفها توظيفاً أمثل. تعميق مفهوم المواطنة وتصحيح بعض الممارسات "الهستيرية" التي بدأت تنخر في مجتمعنا وتوجيه مسارها بتعقل، فالوطنية ليست رقصا على معازف ولا ألوانا تصبغ على الوجوه ثم نرى تلك الوجوه لا تحرك ساكنا إذا ما أسيء لهذا البلد والنيل من أمنه ومقدراته. الوقوف أمام الشائعات المغرضة وصد الرسائل المسيئة لهذا البلد قادة وشعبا واغتنام المواقف والمحافل في التوعية بخطورة هذه الرسائل وخطورة تناقلها. زرع قيمة الشعور بالملكية الجماعية؛ إذ أن شعور العاملين والطلاب بأن هذا الوطن وطنهم يذكي في نفوسهم الغيرة عليه والتفاني في المحافظة على مكتسباته ومقدراته. ومن ذلك أيضا: احترام الأنظمة التي وضعتها الدولة وعدم التحايل عليها إذ أن تطبيقها من أوجب الواجبات؛ لأن بها تنتظم حياة الناس وتحفظ حقوقهم. ابتكار مبادرات تعزز الهوية الوطنية وقيادتها وتقويم أثر تطبيقها. تشجيع المبدعين ودعمهم ونشر إنتاجهم والاحتفاء بمشاركاتهم. الالتزام بأساسيات السلوك السليم وقيم المواطنة الصالحة مثل الولاء والانتماء والعمل الجماعي والتطوعي والتسامح واحترام الآخر . عقد الندوات والمؤتمرات التي تتيح فرص التواصل بين المسؤولين وأفراد المجتمع واستضافة الشخصيات الوطنية البارزة، وخاصة رجال الفكر والمهتمين بالشأن الاجتماعي لمناقشتهم في قضايا ومشكلات مجتمعهم وإبراز أهم القيم الإيجابية التي لها دور في تحقيق التنمية والنهوض بالفرد والمجتمع. تبني برامج مستدامة ذات عمق فكري تعزز المواطنة؛ ووضعها ضمن الأولويات والأهداف إذ أن الفعاليات قصيرة المدى التي تتزامن مع الاحتفاء باليوم الوطني ينتهي تأثيرها بانتهاء المناسبة. ينبغي أن يحمل القائد التربوي هم تعزيز قيمة المواطنة والوقوف على الثغرات الحقيقية، وطبيعة العوائق التي تحول دون تحقيقها كما عليه أن يستثمر الأحداث والمواقف بما ينعكس في النهاية على تعزيز المواطنة وأن يجسدها في سلوكه، فالمواطنة تنمو من خلال الممارسة، كما ينبغي عليه أن تتطابق أقواله مع أفعاله وتقوم علاقاته على الشفافية والعدالة والإيجابية وزيادة وعي جميع العاملين معه بأن تنمية قيم المواطنة مسئولية الجميع. ختاما.. فالوطنية سلوك عملي يظهر في أقوالنا وأفعالنا وعلى القائد التربوي أن يسعى لتحسين ممارساته ويستشعر دوره ومسؤوليته في تنمية المواطنة لمواجهة تحديات الهوية الثقافية. ولن يعذر القادة في تخليهم عن أدوارهم وهم يرون الأمة ودول الجوار تمر بمنعطفات خطيرة فدورهم عظيم وتأثيرهم في الأجيال جسيم يمتلكون سلاح الكلمة وسحر التأثير وصلاحية النفوذ، وضع فيهم المجتمع ثقته ودفع لهم فلذة كبده ومهجة روحه..وإن عليهم أن يستحضروا ويعوا ذلك جيدا.