ذكرت في مقال سابق أن إحدى القارئات سألتني عن علاقتي بالقراءة.. فقررت أن تكون الإجابة كبسولات مختصرة على شكل يوميات.. تأتي على حلقات.. بمعنى آخر سأجيب عن القراءة وأحوالها كلما تيسرت الإجابة.. وأجوبة القراءة -كما تعلمون- مثل أسئلتها لا تنتهي، لذلك هاكم «الحلقة السادسة» من اليوميات: الأحد: ليس كلُّ من يجمعون الكُتب من القرّاء الحقيقيّين، لكن كلّ القرّاء الحقيقيِّين يجمعون الكتب، والفرق بينهما أن من يجمع الكتب للتفاخر بها أمام ضيوفه يعود غالباً إلى وحدته التعيسة عندما يغادر الضيوف، أما من يجمع الكتب خالصة لوجه القراءة، فهو لا يتباهى بها أمام ضيوفه خشية عليها من غياهب «الاستعارة»، وما إن يغادر آخر ضيف حتى تبدأ حفلته الحقيقية المتمثلة في عزلته وخلوته بكتبه الحبيبة، وقد لخّص الفيلسوف فنست ستاريت ما يشعر به القارئ الحقيقي تجاه الكتُب حين قال: (عندما نجمع الكتب فإننا نجمع السعادة). الإثنين: هناك مقولات تكمِّل مقولات سبقتها إلى نفس المعنى، وهناك مقولات تشرح مقولات لم يولد قائلوها بعد، ولم تبلغ مسامعهم ضمن المنقولات المتواترة، فمثلاً تروي كتب التراث أن أحد جُلساء الخليفة العباسي المأمون -في أواخر القرن الهجري الأول- سأله: «ما ألذُّ الأشياء إليك»؟ فقال: «التنزُّه في عقول الناس أحياناً»، ويقصد قراءة كُتب العظماء، حيث كان المأمون مولعاً بالقراءة وشغوفاً بالمعرفة.. وبعد تلك القصة ب150 عاماً تقريباً أي في أوائل القرن الهجري الثالث أكمل الأديب والشاعر الفارسي الكبير ابن طباطبا مقولة الخليفة المأمون -ربما دون قصد- أو شرحها -ربما مع سبق الإصرار والترصُّد- بقوله: (الكُتبُ حصونُ العقلاء التي يلجأون إليها وبساتينُهم التي يتنزهون فيها). الثلاثاء: المعرفة سُلطة، والقراءة قوة، والشغف لا يُشترى بالتّرف كما يقول صديقي «أبو نوّاس»، لهذا السبب لا تتفاجأ إذا رأيتَ رجل أعمال يشعر بغيرة كبيرة كلما مرّ بسيارته من أمام مقهى وهو يشاهد رجلاً بسيطاً يستمتع بقراءة كتاب أو يدوّن ملاحظة عابرة، وظلال ابتسامة لا تفارق شفتيه، واسأل من شئت من زبائن الشعر والنثر من كُبار ووجهاء القوم.. من هنا لم أستغرب أن يقول هرقليطس العظيم: (لو خُيِّرتُ بين عرش فارس وفكرةٍ جديدة أقعُ عليها لاخترتُ الفكرة). الأربعاء: كثيرٌ من الناس يزعم أنه قرأ الكتاب الفلاني والمجلّد العلاّني، ولكن عندما يتحدث لا تجده انتفع بالكتاب أو استوعب فحواه، لذلك منذ أن بدأتُ القراءة في أولى مراحلي استفدتُ من عبارة صرّح بها شيخنا العقاد حين قال: (يقول لك المُرشدون: اقرأ ما ينفعك، ولكني أقول: بل انتفع بما تقرأ). الخميس: الأيام تعلِّمنا والتجارب تعلّمنا والأساتذة يعلّموننا والوالدان يعلموننا والمدرسة تعلّمنا والفضائيات تعلّمنا، ولكن هناك معلِّم لا نلتفتُ إليه، ذكره الفيلسوف أولوس جليوس حين قال: (الكتاب معلم صامت). الجمعة: معارك الإنسان كثيرة، فهناك معركة الإنسان مع نفسه، وهناك معركة الإنسان مع عاداته، وهناك معركة الإنسان مع مجتمعه، وأخيراً هناك معركة الإنسان في اكتساب لقمة العيش، وما بعد الأخير هناك معركة الإنسان مع أفكاره، وقد أشار إلى ذلك الفيلسوف هنري والاس: (أحياناً تكون قراءة بعض الكتب أقوى من أي معركة). السبت: أعاتب كثيراً من الأصدقاء الذين لا يقرأون إلا الكتب التي تتماشى مع أفكارهم وتؤيد توجهاتهم، وتبصم بالعشرة على صحّة آرائهم، ومثل هؤلاء القرّاء لن يستفيدوا شيئاً، بل سيعيدون إنتاج ما يعرفون، وقد بيّن ذلك الفيلسوف هاروكي موراكامي: (إذا كنت تقرأ فقط الكتب التي يقرأها الجميع فستفكر فقط كما يفكّر الجميع).