سُجل تحسن لافت في جودة الهواء في البلدان التي تشهد شللا شبه كامل للأنشطة الاقتصادية بسبب فيروس كورونا المستجد بفعل تراجع مستويات التلوث الجوي، لكن لا يزال من المبكر التكهن بآثار هذا الوضع على المدى الطويل. وقد أظهرت صور التقطتها الأقمار الاصطناعية التابعة لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) الشهر الماضي تراجعا كبيرا في مستوى تركيز ثاني أكسيد النيتروجين الناجم بشكل رئيسي عن المركبات ومراكز انتاج الطاقة الحرارية، في مدينة ووهان الصينية منشأ وباء كورونا المستجد. وبعدما كانت خريطة التلوث في المنطقة باللونين الأحمر والبرتقالي، انتقلت إلى الأزرق بفعل تقلص مستويات التلوث. وسجلت وكالة الفضاء الأوروبية الظاهرة عينها مطلع الشهر الجاري في شمال إيطاليا التي يقبع سكانها في الحجر المنزلي منذ أسابيع لتطويق انتشار الفيروس. كذلك لوحظ الوضع نفسه في مدريد وبرشلونة حيث فرضت تدابير الحجر على السكان منذ منتصف آذار/مارس، وفق الوكالة الأوروبية للبيئة. ويسبب ثاني أكسيد النيتروجين التهابا قويا في المجاري التنفسية، وهو من الغازات الملوثة ذات أمد الحياة القصير. ويوضح فنسان هنري بوش من برنامج "كوبرنيكوس" الأوروبي لمراقبة الأرض لوكالة فرانس برس أن هذا الغاز "يبقى يوما واحدا في الغلاف الجوي" ويستقر على مقربة من مصادر الانبعاثات، ما يجعل منه مؤشرا جيدا لكثافة الأنشطة البشرية. مستويات التراجع هذه غير مسبوقة بحدتها. وقد أوضحت الباحثة في وكالة الفضاء الأميركية في ليو في تعليق على تقلص التلوث في الصين "هذه المرة الأولى التي أرى فيها تغييرا بهذه الدرجة في منطقة بهذا الحجم بفعل حدث معين". ويقول ألبرتو غونزاليز أورتيز الاختصاصي في جودة الهواء في الوكالة الأوروبية للبيئة إنه حتى في الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 و2009، كان التراجع "أكثر استمرارا على المدى الزمني". ويلفت فنسان هنري بوش إلى أن مستويات التركيز الوسطي بثاني أكسيد النيتروجين في شمال إيطاليا تراجعت إلى النصف تقريبا. ماذا عن المدى الطويل؟ في بلدان ومناطق أخرى اتخذت تدابير حجر منزلي بينها فرنسا وبلجيكا والأرجنتين وتونس وكولومبيا وكاليفورنيا وبافاريا، يتعين الانتظار قليلا لرصد تطور الوضع. لكن ذلك لا يعني أن الهواء في العالم بات نقيا. ففي الصين، سجلت بكين محطات تلوث بالجسميات الدقيقة في شباط/فبراير بحسب بيانات مرصد "ناسا إيرث". كذلك الأمر مع باريس التي سجلت معدلا متوسطا في مؤشر التلوث رغم تدابير الحجر المنزلي، بفعل وجود جسيمات دقيقة وغاز الأوزون في الغلاف الجوي. ويوضح فنسان هنري بوش أن تركيز المواد الملوثة قد يتغير تبعا للأحوال الجوية. ويقول "بعض مصادر الانبعاثات مثل إنتاج الطاقة وتلك المتصلة بالسكن لا تتراجع على ما يبدو عندما يلازم عدد أكبر من الأشخاص المنازل". غير أنه يلفت إلى أن مستويات الجزيئات الدقيقة (2,5 ميكرومتر و10 ميكرومتر) وأول أكسيد الكربون "ستتراجع أيضا مع الوقت" خصوصا بفعل تراجع حركة النقل والصناعة. لكن ما سيكون الأثر الصحي لهذا الوضع المستجد فيما يسبب تلوث الهواء 8,8 ملايين وفاة مبكرة سنويا في العالم، بحسب دراسة حديثة. يشير الاختصاصي الفرنسي في معالجة الأمراض الرئوية برونو أوسيه في هذا الإطار إلى أن "أي تراجع في التلوث نبأ سار". وعلى المدى القصير، يسبب التلوث بالجزيئات الدقيقة التهابات في العينين والحلق ومشكلات تنفسية. ولدى الأشخاص المسنين أم المصابين بالربو، قد تكون الرعاية الطبية لازمة لمعالجة مشكلات تنفسية أو قلبية وعائية في الأيام والأسابيع التي تلي التعرض لهذه العناصر. وقد تنتهي الحالات الأكثر خطورة بالوفاة. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى أمراض مزمنة أو تنفسية أو قلبية وعائية أو سرطان في الرئة. ويوضح أوسيه أن التزام المنزل قد يتيح "تقليص الالتهابات"، خصوصا في ظل ارتباط جودة الهواء في داخل المساكن بتلك المسجلة في الخارج. ويلفت تجمع "إير سانتيه كليما" الطبي الفرنسي إلى أن "تدابير الحجر المنزلي تؤدي إلى نتيجة مضاعفة، سواء من خلال الحد من مخاطر انتقال العدوى بين الأفراد أو عبر تقليص التلوث خصوصا بالجسيمات الدقيقة جراء حركة المرور". غير أن ألبرتو غونزاليز أورتيز يشير إلى صعوبة التكهن بالتبعات على المدى الطويل لأن "الأثر الأكبر ينجم عن التعرض على المدى الطويل".