في ظلِ التسارع المعلوماتي والفكري الذي نعاصره أصبح من السهل أن يختار كل فرد لنفسه رأياً معيناً أو أيدلوجية محددة، يتبناها ويجعل من نفسه نصيراً لها، متحذلقاً فيها بشتى الطرق، أي أنه يعتقد تماماً أنه مُلِم بجميع جوانبها، صحيح في تناولها، كما لو أنها عارية من الخطأ ولا يجوز النقاش فيها، وقد يتخلله بعض الدوغماتية في سبيل الدفاع عنها، وعدم السماح بالتشكيك فيها.. والدوغماتية هي مصطلح يعني التزمت والتشدد والتصلب حيال رأي أو فكر، وفرضهِ بالقوة دون حُجة أو إقناع في ظل غياب المنطق والدليل. لا شك أن ترسيم اتجاهات الشخصية وصياغة معتقداتها وتبني الآراء أمرٌ جيد يجب أن نقوم بتنميته داخلنا وداخل أبنائنا، إلا أن هناك قواعد هامة ينبغي أن نُقيم عليها أعمدتنا وأعمدتَهم قبل ذلك، تتمحور جميعها حول أن الاختلاف لا ينبغي أن يصنع أبداً خلافاً، وأنه عنصر رئيسي في التكامل بين البشر وبعضهم البعض. وبكلِ أسف فقد انتشرت الدوغماتية والتحذلق في مناحٍ حياتية كثيرة من حولنا، في الناحية السياسية والدينية حدث ولا حرج، والاجتماعية أصبحت مرتعاً للجميع يتحذلقُ كيفما شاء، ولا عجب أن تجد هؤلاء المتحذلقين مدعين الكمال في المعرفة، لا يعترفون أبداً بأنهم مرضى بداء التحذلق بل تراهم يتمادون في صد أي انتقاد يُوجَّه لهم؛ لأنهم يعلمون جيداً أن النقد البناء يُسقطَ أقنعتهم وأبراجهم العاجية التي يختبئون فيها خلف شعارات سطحية يقومون بترديدها، ووعي منخرم يعتقدون سلامتِه من أي نقصانٍ أو خطأ. ونلاحظ أن أصحاب هذه العقليات؛ يجعلون من الأجيال اليافعة بيئةً خصبة لنمو معتقداتهم المريضة، فنجدهم يبثون بسمومهم في آذانهم فيضاً من القصص التي قد تكون من وحي خيالهم فقط ليثبتوا صواب ما يدعون اليه، ويضمنوا بذلك تجمع الحشود خلفهم. لم يعد هناك صعوبة في الوصول الى معلومة أو البحث في قضية لمعرفة جوانبها وملابساتها، ابحث بنفسك يا عزيزي واجمع قدر ما شئت، ولكن اياكِ وأن تعتقد صحة رأيك دوناً عن غيرك، تعلم كيف تستمع للآراء المختلفة ولا تتجرأ على تنصيب نفسك حَكماً على ما ينطقه الآخرون، كل وجهات النظر صحيحة حتى يطرأ رأي آخر قائم على حجة وبرهان، لا تجعل من نفسك عرضة لداء الدوغماتية فتصبح منبوذاً في نهاية المطاف.