وبعد فهذه شهادة دارس تتلمذ كآلاف غيره على يد فلاسفة من كل صوب وحدب، فلم ينحرفوا ولم ينجرفوا، وصاروا أكثر تمسكاً بالقيم، وأكثر تأثراً بالجمال، وأكثر إحساساً بمعاني الحب والعدل والحرية!، وفي ضوء ذلك، لم أندهش أو أتخوف من قرار تدريس الفلسفة في المدارس السعودية. ومن الفلسفة اليونانية القديمة، إلى المدارس الفرنسية الحديثة، مروراً بكل المذاهب، ووصولاً الى جوهر الأشياء، أدركنا مبكراً قيمة التوحيد بين الحق والخير، وبين الحق والجمال، وبين الجمال والخير، وأن للنفوس ثلاث مراتب: الأمارة بالسوء، واللوامة، والمطمئنة التي تتعالى عن المحرمات! تعلمنا في فلسفة القيم، معنى الشجاعة، والفرق بينها وبين التهور، وكيف أنها وسط بينه وبين الجبن، ومعنى الكرم، والفرق بينه وبين التبذير، ومعنى الكرامة، والفرق بينها وبين الغرور، ومعنى الكبرياء والفرق بينه وبين الكِبر!، ويقينا لو أخذ بها كل في مجال عمله، لكان للحياة شكل وطعم آخر.. من السياسة للاقتصاد، ومن الصحافة للطب، ومن السلام إلى الحرب! تعلمنا في الفلسفة، أن العدالة وسط معتدل بين إفراط وتفريط.. وكنا ومازلنا نوقن أن الله هو العدل، فلما درسنا أفلاطون لم نجد غضاضة في أن نقتنع بأنها المسافة الواعية بين الإنسان والحيوان! وتعلمنا كذلك، معنى حق الحياة الكريمة، ومعنى حق الحرية، وأن العدالة المطلقة هي في القانون السماوي، لأنه جلَّ شأنه خالق الكائنات وخالق قوانين مسيرتها!. وتعلمنا في الفلسفة مبكراً، أن الأخلاق في نظر الإسلام، على ثلاثة محاور: كرامة الإنسان، وحريته المسؤولة، وأن خلاصة الأخلاق هي النخوة والفروسية. تعلمنا في الفلسفة، أن الحلم والأناة توأمان، ينتجهما علو الهمة، وأن عالي الهمة، ينظر إلى الشدائد بعمق تفكير وتأمل وتدبر، ويتحمل المحن والمشاق ويصبر عليها صبراً جميلاً، وأن أصناف الحلم على ثلاث: العفو عند المقدرة والترفع عن السباب، ثم الاستحياء والتفضل، ثم حفظ النفس وقوة الإرادة. تعلمنا في الفلسفة، كيف نتحول بالحب من الأنا الى الأنت، ومن الذات الى الغير.. وأن كلمة حب تكاد ترادف الإيثار مقترناً بالإخلاص، وأن حياة المحبين، حياة يتعلق فيها الإنسان في السحر والسمر وفي الوجدان، بأسمى وأرفع ما في الإنسان، فهو يخلع على الوجود البشري عمقاً ومعنى وقيمة، فيكسبه بذلك اتجاهاً وقصداً وغاية. تعلمنا في فلسفة الجمال أن الإنسان يسير عبر معابر ثلاثة: اعتقاد خاشع يصل لحد التقوى، من خلال عقل يستقرئ الحق، واختيار حر ملتزم بحد، والحرية فيه تصل حد الاستقامة، ثم إبداع رائع يصل حد الروعة من خلال إحساس يستقطر الجمال! قال الإمام ابن تيمية: «إذ الإنسان مجبول على محبة الحسن، وبغض السيىء، فالحسن الجميل محبوب مراد، والسيىء القبيح مكروه مبغض» وقال ابن القيم: «والقلوب كالمطبوعة على محبته، كما هي منظورة على استحسانه» تعلمنا من أستاذنا الدكتور مصطفى عبده، أن الإحساس بالجمال، أمر فطري، أصيل في جبلة الإنسان، وأن الجمال، سمة واضحة في الصنيعة الإلهية، فالعجب به دائم، والميل اليه طبيعة في النفس، تهفو إليه حيث وجد، وتشتاقه إذا غاب، وقد تسمع صوته، فينعشك، أو ترصد فكره فيدهشك، وحيثما اتجهت ببصرك، فثمة هناك ما يجذبك «فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون» صدق الله العظيم! تعلمنا من أستاذنا الدكتور عزمي إسلام، كيف ظل الفيلسوف العالمي برتراند رسل صاحب رسائل السلام، متمسكا بحق الفلسطينيين في إعادة دولتهم المغتصبة، متسائلاً: كيف يقبل العالم هذا الوضع المأساوي من الظلم والقسوة؟! هذا بعض ما تعلمته أجيال وأجيال من قيم ومعانٍ وسلوك، في قسم الفلسفة العريق بجامعة عين شمس المصرية، على يد الأساتذة العظماء: نازلي إسماعيل، وفيصل بدر عون، وعزت قرني، وحسن عبد الحميد، وغيرهم من سلالة الحضارة المصرية المتوارثة، فما انحرفوا وما ألحدوا، وما تشددوا إلا في الحق ورفض الظلم، والطغيان، والاستبداد.. فلا تخافوا! أخيراً، كيف نخشى الفلسفة، باعتبارها أم المعارف، وغاية كل نابغ في العالم الحصول على درجة الفلسفة في التخصص الذي شق طريقه فيه، ولو كان هو الهندسة الميكانيكية؟!