شئت أم أبيت أنا العربي أنتمي إلى حضارة الغرب انتمائي الأصيل إلى حضارة الشرق. عربي شرقي وغربي في آن معاً، أنتمي إلى الحضارة العربية ودياناتها المتتابعة مثل اليهودية والمسيحية والإسلام. وكعربي يصح لي أن أنادي بالحضارة الغربية، في أصولها الأساسية، كحضارة أصولها عربية، وأتساوى مع الألماني والانكليزي والفرنسي والايطالي في انني وريث تلك الحضارة التي انبعثت ونمت وترعرعت من شبه الجزيرة الاسبانية والجزائر المحيطة باليابسة الايطالية. الجذور التي تغذي حضارتي هي الجذور ذاتها التي تغذي الحضارة الأوروبية الغربية، وشارك قومي بصورة لم يماثلهم فيها أحد أهل الغرب تراثاً روحياً خلاقاً انطلق من رسالات عظمى ثلاث اغنت التراث الروحي والفكري للإنسان عبر الزمان. لقد نموتُ في حضارة تحررت من سيطرة النظام الكهنوتي، ومن تقاليد فكرية صارمة تمنع الانفتاح والانطلاق، ومن طقوس مثيرة للغرائز والأحاسيس كما الحال في أنواع العبادات الغربية. وفيما تقيدت سبل التعبد في الغرب لتبقى محصورة في القصور وبلاط ملوك بيزنطة، وكان الله بالنسبة إلى أهل الغرب ملكاً من الملوك أخضع الملوك كلهم لسطوته وامبراطوراً ساد الأمم والشعوب والقبائل جميعها، أجد، أنا العربي، أن نظرتي إلى الله نظرة تخترق الآفاق، أبحث عنه بين النجوم وفي حبات الرمل وباسقات النخيل وفي قطرات الغيث وشواطئ الواحات، فها قد فتح الآفاق أمامي لعبادته وبسط الصحراء رحاباً واسعة لا حدود لها لأقيم الذكر فيها حراً طليقاً دون ان يقف بيني وبينه وسيط أو وكيل. فإذ به كشمس الصحراء يسيطر على كل ما يتصل بالحياة، خصوصاً حياة أولئك الذين يستلون العيش والزرق من الكثوب والرمال. لكنني أعود فالتقي مع اشقائي أبناء الغرب حيث الشعلة الزرقاء تغمر بنورها الوهاج العالم كله، فترفع الغشاوة تلو الغشاوة عن عيون مريديه ومحبيه، ويدخل الكل شرقياً كان أم غربياً عالم الروح فتكون كلمة الحق واحدة لا تتجزأ وكلمة المحبة الشاملة واحدة في كل اللغات. تزول الحواجز وتتوحد اللغات وتنصهر الكلمات، فتجد المرأة نفسها حقاً شقيقة الرجل، فإذ بالقديسة تيريزا الافالية أم المتصوفات الغربيات جميعاً تتحدث بلغة رابعة العدوية وتترنم بتلاوة بقصائدها. يبدو تاريخنا العربي كله وكأنه حوار متصل الحلقات مع العالم، خصوصاً عالم الغرب، تماماً كما الحال مع العالم الغربي الذي لم يقم حواراً مع أي شعب من شعوب العالم كما فعل معنا نحن. ومهما كانت نتيجة هذا الحوار، فإن جذوره الرئيسية تنبعث من امتزاج التراثين الروحيين الغربي والعربي: فيقف عمالقة الفكر والشعر الغربيون من الحضارة العربية مواقف حائرة فنجد دانتي الايطالي رافضاً، وغوته الالماني مؤيداً، وشكسبير الانكليزي محايداً تاركاً الحكم لنا وللتاريخ. لكن الشعر والأدب لم يقفا حائلاً بين الحضارتين، فأقام الاندلسيون للشعر منابر في عوالم الغرب فاغنوا الشعر الاسباني والانكليزي والفرنسي والايطالي، وقام الغربيون فأحدثوا في الأدب العربي الحديث أهم ثورة عرفها الأدب العربي في تاريخه الطويل. وصدق أبو تمام حين قال وإن لم يكن نسب يؤلف بيينا - أدب أقمناه مقام الوالد، وهكذا يقف أبو العلاء المعري أمام ناظري يصافح أخاه جون ميلتون، وحتى دانتي الرافض يعترف لاخيه ابن عربي ان فتوحاته المكية كانت مصدراً لفكره وشعره الذي ضمنه كوميدياه الالهية. أما أبطالنا فهم أبطالهم، وفي ضمائر الشعوب يمثل الأبطال قيماً ومعاني عميقة تتصل بمنابت الروح والاخلاق. وننظر إلى أبطالنا فنجدهم وقد ترعرعوا في بيئة عربية أصيلة هي بيئتنا الصحراوية، أما أبطالهم، الذين هم أبطالنا انفسهم، فبيئتهم العربية الصحراوية بالنسبة إلى الغربي بيئة غريبة. فإبراهيم وإسماعيل واسحاق وداود وسليمان وبلقيس وموسى وعيسى المسيح كلهم أبناء التربة العربية، أبناء الصحراء. وبلقيس أجمل نساء العالم وأكثرهن سحراً تمثل عبقرية الانوثة وجمالها ولباقتها ومقدرتها، فإذ بها ذكاء وتدبيراً تخضع لنفوذها أقوى الرجال وأكثرهم حكمة وذكاء، وهو صاغر راضٍ بحكمها. ويقف كل هؤلاء ابطالي الحقيقيون وقد خرجوا من أرض هي أرضي، وعالم هو عالمي، وثقافة صحراوية هي ثقافتي، ويصبح هؤلاء الأبطال بالنسبة إليّ عرباً حقيقيين، قلباً وقالباً، روحاً وفكراً، ويخرج هؤلاء من صفحات التاريخ ليملأوا عالمي شخصيات حقيقية لا يفصلهم عني زمان أو مكان، ويشاركونني واخواني إنسانية دنيوية، فإذ بهم شخصيات من لحم ودم، احياء في دخيلة نفسي وعقلي، شخصيات مثيرة مليئة بالحياة. أما صديقي الغربي فيقف من هؤلاء الأبطال موقفاً آخر، وينظر إلى تلك الشخصيات عبر تراثه الروحي المسيحي واليهودي فيراهم في قالب عربي صحراوي بدوي، ويجدهم غرباء، فيملأه ذلك حيرة ودهشة، ويشعر ببعد الشقة بينه وبينهم، يفصله عنهم ألف زمان ومكان، فيبدو أولئك الأبطال وكأنهم يعيشون في عالم غريب خاص بهم وحدهم. فسليمان الحكيم، أنبل الشخصيات شأناً في التراث الروحي في الغرب، يبرز لنا من صفحات العهد القديم في الجزء الثاني من سفر الملوك شخصية عظيمة تتسم بالحكمة والعدالة، إلا أنها شخصية تخلو من الصفات الإنسانية التي يسبغها تراثنا الروحي والشعبي على سليمان الحكيم. فبالنسبة إلينا سليمان الحكيم جزء لا يتجزأ من التراث العربي يتأصل في قرارة ضميرنا الشعبي، بينما يغيب سليمان الحكيم في الأدب الشعبي الغربي أياً كان. ويسهل عليّ أنا العربي أن انظر إلى سليمان الحكيم فأجده قريباً إلى نفسي فيصبح لي مثلاً أعلى للحكمة والحصافة، فهو السلطان العظيم لكنه الإنسان في آن معاً. وتتربع بلقيس أجمل نساء العالم على عرش هو قلب سليمان، فتخترق قلب كل منا، ثم تتمثل أمامنا الحياة بغرائبها، ويسمو بنا الخيال الأدبي والشعري، فنجد سليمان يحدث الهدهد فريداً من نوعه يحكم عالم الانس والجن، ويتأرجح في عواطفه وخياله وأحلامه بين عوالم القدس اللامتناهية وعالمنا المادي الزائل الفاني. ويحتار الغربي أيضاً حين يرى أبطاله هؤلاء بسرعة مدهشة في دورات متلاحقة تطغى على كل شيء، فالعقل العربي في نشاطاته الفكرية سريع الانطلاق، يتمتع بطاقات ذهنية مليئة بالقوة الخلاقة، فيسطع بنوره ليبدد حالك الظلام، ويسكن بعد ذلك كأنه يستعد لوثبة أخرى من وثباته لينفجر بنوره في دورة جديدة من نشاطات التنور والمدنية. ولطالما وصف الغربيون قادة الفكر العرب بأنهم مغامرون يحاورون الروح في كل ما يعملون، فليس من السهل على الغربي أن يرضخ للقوانين التي تحد من حريته الروحية والفكرية. فالعربي تدفعه روحه الوثابة الأبية ونفسه الطموح إلى الحرية، فالروح تحركنا وتحرك المنطق والعقل دائماً. أما الغربي فيحركه المنطق والعقل ويخضع الروح لهما. العربي يقيد العقل لتسمو الروح وتتحرر، والغربي يقيد الروح ليسود العقل ويسطو. العربي ينظر إلى الوجود لترتبط الموجودات في وحدة تنتهي بنقطة الوجود الخالق الواحد: الله نور السموات والأرض. أما الغربي فيحلل كل شيء، ينظر الى الجزء لا الكل، ويعود بكل شيء الى المادة اساساً لكل ما هو محسوس وملموس، وما عدا ذلك يتركه عالماً لا ينبغي دخوله فيتجاهله وينساه. كان قادة الرأي والفكر عندنا من المناضلين الاحرار، تحركوا عبر التاريخ وكان تحركهم كالبرق يندفعون شرقا وغربا، لكنهم غالبا ما كانوا يجدون انفسهم وقد دخلوا مناطق مجهولة هدفهم مهاجمة القلاع الحصينة التي ان استعصت عليهم رؤيتها هاجموا كل ما في طريقهم من دون تمييز، وغالبا ما شهروا كل ما عندهم من سلاح في وجه الاشباح وظلالها. فنحن قوم ليس الصبر من شيمنا، نريد ان نعرف ونكتشف كل شيء، ولا نرضى بما يمكن ان نحصل عليه اليوم بل نريد المستقبل وما بعد المستقبل في لحظة واحدة. نظرتنا الى الامور هي نظرة عالمية ونؤمن بمبدأ وحدة الوجود، الشمس والقمر، والانس والجان، والأرض والسماء، فكل ما هو في الخليقة مظهر من مظاهر عظمة الخالق وجلاله. وعندما نقف وقفة المفكر مع الغزالي او ابن عربي نشاهد انفسنا وقد طرحنا سلاحنا جانبا وقد جردنا انفسنا من كل ما يربطنا بهذا العالم، لأن جهاد النفس بالنسبة الينا يتسامى فوق اي جهاد آخر، وهدفنا في نهاية الامر ان نفوز برضاء الخالق عزّ وجلّ، فقراء في هذا العالم اغنياء في ما نحققه من انجازات روحية. فالمحبة التي يفوز بها وريث التراثين المسيحي واليهودي محبة تمنح لمن يطلبها من دون تقاعس، اما المحبة التي نادى بها المتصوفون المسلمون فلا سبيل الى نيلها الا لمن عانى الآلام وأعلن الطاعة العمياء لإنسانية الإنسان، فإن أردت أن تمتلك الوجود كله عليك ان تتنازل عن كل ما يربطك به من وشائج وصلات. فكان الفقر والانقطاع اعظم سلاح شهره أولئك الطامحون الى مجد لا يزول، واعتبروه امضى الاسلحة واكثرها فعالية. لأن الفقر والانقطاع اعتبرهما اهل العرفان سلاحاً ما بعده سلاح، السلاح الوحيد الذي بمقدور الجميع اعتماده في معارك الفتوحات الروحية. نعم، فأنا العربي أحاور الغرب وأتحدث اليه بلسان الشريك في حلبة الصراع الكبرى. اتحدث الى الغرب وأنا واثق من نفسي ومن خبراتي عبر الاجيال والقرون، ويمكنني ان أحاور الغربي حوار الندّ للند، فأنتقد معجزاته المادية انتقاداً لاذعاً على رغم ان معجزاته تلك اصبحت بالنسبة اليّ جزءاً من حياتي، ويمكنني ان اؤكد له ان قوة الغرب ومعجزاته كلها تتلاشى في نظري امام سطوة الله القوي القدير، وان عظيم الشك يساورني من ان ما يسميه البعض تقدماً انما هو على حساب الروح، وان "فلسفة السوق والعرض والطلب" من دون أسس روحية وإنسانية لن تجني الا الألم والمشكلات الاجتماعية المتفاقمة، وانه لا بد ان نحدث انقلاباً على "السوق" فندرك ان السوق خُلق ليخدم الانسان ولم يخلق الانسان ليخدم "السوق". إنّ لقومي رصيداً روحياً وانسانياً عظيماً إذا اغترفنا منه وقفنا امام العالم المعاصر وقضاياه المعقدة مؤمنين بأنفسنا بينما يستمر الغرب المادي قلقاً محتاراً تنتابه الفوضى الخلقية والروحية متردداً في أي طريق يسير إلى الخلاص. وفي اللحظة الراهنة تبرز أمامي قضايا مصيرية لا تختلف كثيراً عما يواجهه اخي الانسان الغربي، فها نحن معاً نواجه عنف التيار المادي الخبيث الذي يجتاح الغرب والشرق في آن معاً، ومهما حاول البعض التأكيد على ان الصراعات القائمة في العالم هي في الحقيقة صراع واحد هو الأهم، وهو الصراع الغربي - العربي الاسلامي، فواضح للجميع ان لنا نحن الاثنين عدواً مشتركاً وهو الثقافة المادية الجوفاء التي لا تفرق بيني وبين ابناء الغرب، فهي كالنار المستعرة تستهدف الجميع من دون استثناء، وما الهواجس التي تقلقني سوى الهواجس ذاتها التي تقلق ابناء الغرب، وها نحن معاً ننظر الى المحنة التي تواجه الانسان المعاصر غربياً كان ام شرقياً، والمحنة يئن من وطأتها ابن الغرب بصورة اشد من اي انسان آخر، فقد ضاقت الآفاق حتى بات الانسان المعاصر صاحب تخصص، يملي عليه هذا التخصص ضيق التفكير ويقلّص دوره كانسان فعّال في المجتمع، وتلاشت الروابط التي كانت في الماضي اساساً للتوازن، فالروح ابعدناها من كياننا الطبيعي، والعاطفة فرقناها عن العقل، اما الشعور والاحساس فقد فرضنا عليهما ان يغيبا عن حياتنا الفكرية، وقام صراع رهيب بين ما يسمى بالعلوم والانسانيات، واخذتنا الحيرة في نمو الفرد ومصالح المجتمع، وصرنا نتخبط في آراء وفلسفات عقيمة لا طائل تحتها أضرت بالفرد وبالمجتمع، وبدا الانسان المعاصر عربياً كان أم غربياً وكأنه قد سلخت عنه انسانيته، لا يرى قيمة لنفسه في مجتمع يعتبره غريباً، وليصبح مواطناً في دولة لا تقيم لهذا الفرد وزناً. آن الأوان لكي ندرك ان خلاصنا نحن الاثنين باتحادنا وتآزرنا لرفع نير المادية الطاغية التي يرزح تحت عبئها الشرق والغرب بصور متفاوتة، وآن الأوان لنقيم حضارة إنسانية لا شرقية ولا غربية تجمع الجميع. * كاتب لبناني. رئيس منبر الدراسات الجبرانية في جامعة ماريلاند - الولاياتالمتحدة الاميركية.