قلت قبل تسع سنوات: إن أمن البحر الأحمر لا تُحقِّقه دلافين السلام بقدر ما تصونه قروش الحرب، وأكدتُ أمام ندوة حول الأمن في البحر الأحمر، بدعوةٍ من جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، أن حماية حرية الملاحة في البحر الأحمر هي مسؤولية الدول العربية المشاطئة، وأن العبء الأكبر في تلك المسؤولية يقع على عاتق المملكة العربية السعودية باعتبارها صاحبة أطول شواطئ على البحر الاحمر (حوالى 2400 كيلو متر)، ومصر باعتبارها أكبر قوة بحرية مشاطئة بسواحل يبلغ طولها حوالى ألف كيلو متر مربع، فضلًا عن امتلاكها لأحد أهم الممرات المائية في العالم (قناة السويس)، هاتان القوَّتان هما الأقدر على الاضطلاع بمسؤولية الأمن في البحر الأحمر الذي تطل عليه سبع دول عربية. كانت طبيعة التهديدات آنذاك تقتصر على بعض أعمال القرصنة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، لكن هذه الأعمال استدعت أساطيل العالم للتواجد في المنطقة بدعوى حماية أساطيلها التجارية من هجمات القراصنة، فعلت ذلك إيران، وفعلته تركيا، إلى جانب قوى تجارية عظمى كالولايات المتحدة والصين، وقوى تجارية كبرى كماليزيا مثلا. لم تكن الأطماع الإيرانية، أو التركية، قد أسفرت عن وجهها بعد، فالمنطقة قبل أحداث ما يُسمَّى بالربيع العربي، التي عصفت بتونس، ثم مصر، ثم ليبيا، فسوريا، فاليمن، كانت ما تزال عصيَّة على الاختراق، تحت حماية قوى تقليدية، كانت قادرة بذاتها على التصدي، لأخطار تقليدية هي أيضًا. أحداث (الربيع العربي) حملت معها نذر تهديد جديدة وجدية للإقليم، استدعت إعادة النظر في نظريات الأمن بالمنطقة العربية، التي حوَّلتها الأحداث إلى ساحات اقتتال أهلي، استفادت منها قوى إقليمية طامعة (إيرانوتركيا وإسرائيل بصفةٍ خاصة). التعاطي العربي مع الأحداث وتداعياتها، استدعى بدوره تسارع وتائر التنمية في كل من مصر والسعودية بصفةٍ خاصة، فسارعت مصر إلى توسيع قناة السويس، والبدء في مشاريع تنموية عملاقة بمحور قناة السويس على البحر الأحمر، فيما سارعت السعودية إلى تدشين اكبر مشروعين تنمويين على البحر الأحمر، الأول مشروع نيوم العملاق عند شمال البحر الأحمر، والذي يمتد إلى مناطق في سيناء المصرية والعقبة الأردنية، والثاني هو مشروع البحر الأحمر السياحي العملاق الذي أعلن عنه سمو ولي العهد في يوليو 2017، والذي يُقام فوق مساحة 34 ألف كيلو متر مربع في المسافة بين أملج والوجه، مشتملًا على عشرات الجزر الطبيعية البكر. هذا الأفق التنموي اللامحدود، يتطلَّب أُطرًا أمنية تحميه، وأخرى سياسية تُوفِّر له أسباب الأمان وسبل الرواج والنجاح، وهو ما استدعى مبادرة الملك سلمان بن عبدالعزيز بالدعوة إلى تشكيل كيان يجمع الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن؛ بهدف تعزيز التعاون والتنسيق الأمني والاقتصادي والبيئي بينها. وقالت وزارة الخارجية السعودية: إن سبع دول عربية، اتفقوا، في المملكة، وبحضور العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز على إنشاء كيان يضم «السعودية ومصر والسودان وجيبوتي واليمن والصومال والأردن». مُؤكِّدة أن الكيان يهدف إلى حماية التجارة العالمية وحركة الملاحة الدولية، وسيُعزِّز الأمن والاستثمار والتنمية للدول المشاطئة للبحر الأحمر. في البعد الأمني يسعى الكيان الجديد، إلى تبنِّي رؤية تستهدف تطويق التطويق، فيما تسعى إيران لتطويق المنطقة من الجنوب عند اليمن، بينما تسعى تركيا لتطويقها من الغرب عند سواكن السودانية، ومن الشرق من قواعدها في قطر. استراتيجية تطويق التطويق، تتيح للكيان الجديد امتلاك قدرات ذاتية لا قِبَل لأية قوى إقليمية طامحة، في التصدي لها، كما تسمح للقوتين الرئيسيتين في كيان البحر الأحمر (السعودية ومصر) أن تمضيا قُدمًا في مشروعات تنمية عملاقة في مناطق تمتد إليها يد العمران لأول مرة؛ منذ خلق الله الأرض ومَن عليها. مبادرة الملك سلمان جاءت في وقتها، فيما يلح الظرف الإقليمي باستحقاقاته، لكنّ عملًا دؤوبًا لتفعيل تلك المبادرة، ينبغي أن يبدأ دون إبطاء، في منطقة تُسَابِق الزمن لتعويض ما فات، ولإدراك ما هو آت.. فأمام الدول السبع «أطراف المبادرة»، فرص هائلة عليها أن تغتنمها، ومسؤوليات جسيمة عليها أن تتحملها، فدلافين السلام والاستثمار والسياحة في البحر الأحمر تحتاج إلى قروش تحميها. الرؤية عبقرية، لكن الطرح مازال مبدئيًا، يحتاج إلى بلورة هذا الكيان الجديد، وتحديد ملامحه والتزامات أطرافه، على نحو لا يحتمل الالتباس، فنحن بصدد استراتيجية عربية جديدة للبحر الأحمر.