كانت بدايتنا في الحلقة الماضية باستعراض رائعة من روائع شيخنا الراوية السيد محمّد أمين الكتبي الحسني الشعرية، قدّس الله سرّه، ورضي الله عنه وأرضاه. واليوم نعود إلى حقبة أخرى، حيث نشأة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمّد بن عبدالله، صلّى الله عليه وسلّم، بين جبال مكّة المكرمة، ووديانها وشعابها، وحيث تنزّل الوحي الإلهي بالدعوة الخاتمة، فلقد عُرف صلّى الله عليه وسلّم في الحقبة الجاهلية بالشمائل البديعة، والأخلاق المثالية، فقد كان يُدعى ب»الصادق»، و»الأمين». ومن دلائل نبوّته الشريفة تحكيمه بين بطون قريش بعد بناء الكعبة الشريفة، واختصامها في أحقية من يضع الحجر الأسود في مكانه الأساسي، فرضيت به القبائل والبطون والفروع حكَماً ووسيطاً.. ثم كان «حلف الفضول»، والذي حضره سيدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع جده عبدالمطلب بن هاشم، الذي رعاه صغيراً، وكفله يتيمًا، ذلك الحلف الذي تعاهد فيه القرشيون على رفع الظلم عن المظلومين، ويأتي في هذا السياق تقريظًا لذلك الحلف المبارك، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد شهدتُ فِي دَار عبدالله بن جدعَان حلفًا، لَو دعيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَام لَأَجَبت، تحالفوا أَن يردوا الفضول عَلَى أَهلهَا، وَأَن لَا يَعُد ظَالِم مَظْلُوما». وبين أيدينا نصٌّ شعري لعمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أبي طالب، والذي احتضن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بعد وفاة جدِّه، حيث كانت فترة عصيبة على صاحب الرسالة، صلّى الله عليه وسلّم، فحماه عمه وآواه ونصره وآزره، ووقف مدافعًا عنه أمام قريش، والنص شهادة على عظمة سيدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، التي كانت محل إعجاب، وجاذبية من جميع الناس، ممن يعرفون للفضائل قيمتها، وللشمائل الكريمة وزنها. والنص أشار إليه صاحب كتاب «طبقات فحول الشعراء»، محمّد بن سلام الجمحي، وعدّه في المقاييس الشعرية من النصوص الجيدة، حيث أورد النص في صفحة (244) قائلاً: (.. وكان أبوطالب شاعرًا جيّد الكلام، أبرعُ ما قال [قصيدته] التي مدح فيها النبي صلّى الله عليه وسلم: وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ.. رَبِيعُ الَيتَامَى عِصْمةٌ للأرَامِلِ). ونجد تتمة لهذه القصيدة فيما دوّنته كتب الشمائل المحمدية، حيث تقول أبياتها الباقيات: وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِه رَبِيعُ الَيتَامَى عِصْمةٌ للأرَامِلِ تُطِيْفُ بِهِ الهُلَّاكُ مِنْ آلِ هاشمٍ فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وفَوَاضِلِ كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّدًا ولمّا نُطَاعِنْ حَوْلَهُ ونُنَاضِلِ ونُسْلِمُهُ حتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ونَذْهَلُ عَنْ أبْنَائِنَا والحَلائِلِ ومن أبيات هذا النص الرائع، الذي أورده صاحب «السيرة النبوية» ابن هشام كاملة، ما تقول أبياته تعبيرًا صادقًا عن حبّ أبي طالب لابن أخيه، صلّى الله عليه وسلّم، ومؤازرته له، وذلك بتسخير المولى عزّ وجلّ لنبيه، وخاتم رسله صلّى الله عليه وسلّم، في الوقت الذي عزّ فيه النصير، بعد رحيل السيدة الكبرى خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها وأرضاها، وجده عبدالمطلب، تقول الأبيات: لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْتُ وَجْدًا بأحْمَد وإخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبِّ المُوَاصِلِ فَلا زَالَ في الدُّنْيَا جَمَالاً لأهْلِهَا وزَيْنًا لِمَنْ وَالَاهُ رَبَّ المَشَاكِلِ فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمِّل إذَا قَاسَهُ الحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ حَلِيْمٌ رَشِيْدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ يُوالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ لَقْدَ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ لَدَيْنَا ولا يُعْنَى بِقَولِ الأَبَاطِلِ فأَصْبَحَ فِيْنَا أَحْمَدٌ فِي أَرُوْمَةٍ تُقَصِّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ حَدَبْتُ بِنَفْسِي دُوْنهُ وحَمَيْتُهُ ودَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَى وَالكَلاكِلِ فَأَيَّدَهُ رَبُّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ وأَظْهَرَ دِيْنًا حقُّهُ غَيْرُ بَاطِلِ هكذا تولّه المحبّون في ذات الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فجاء شعرهم ينضح صدقًا، وينتشر شذًى يعطّر القلوب الوالهة، ويسلك بمنشديه مسالك العرفان الخالص، والوجد العامر للجانب المحمدي، وكل المنى رضاه صلّى الله عليه وسلّم، والغاية الأسمى أن يفاخر بهم الأمم يوم الجزاء الأوفى، فما أسمى الغاية، وما أشرف المسعى، وما أنبل الطريق، فاللّهم نسألك الوصال بحبيبك المصطفى سيدنا محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه وسلّم، وأن تجعلنا تحت لوائه يوم تجمع العباد ليوم لا ريب فيه، وليس لنا من زاد لذلك سوى محبة خالصة، وشوق لسيدنا المجتبى، ورسولنا المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم.