في ذروة الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي، بدا أن للاتحاد السوفييتي (روسيا) حضوراً متزايداً في منطقة الشرق الأوسط، أمكن تكريسه عبر علاقات خاصة مع مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن، كان الحضور السوفييتي مزعجاً بصفة خاصة للولايات المتحدة، التي سعت عبر استدراج مصر إلى حرب يونيو 1967 إلى إلحاق هزيمة بالسوفييت، وإضعاف مصداقيتهم كحلفاء لدول راهنت عليهم واعتمدت على دعمهم لها. الاجتياح الإسرائيلي لأراضي ثلاث دول عربية في يونيو 1967، جرى إذن، ضمن سياق استراتيجية كونية تقودها الولاياتالمتحدة، هدفها طرد السوفييت ليس من الشرق الأوسط وحده، وإنما من العالم الثالث كله (غالبية دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية). بعد ذلك بنحو اثني عشر عاماً، استدرج الأمريكيون السوفييت إلى الكمين الأفغاني في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ضمن عملية تستهدف استنزاف القوة العظمى الثانية. ومن أجل نجاح مخطط الاستنزاف، جرى تحويل أفغانستان على يد المخابرات المركزية الأمريكية إلى فصول لمحو الأمية الجهادية، ترتفع فوقها رايات إسلامية متعددة، تم تحتها حشد مسلمين من مختلف بقاع الأرض، جرى استنفارهم لمحاربة الكفَّار السوفييت بالسلاح الأمريكي. انهار الاتحاد السوفييتي، مطلع التسعينيات، وتعرى ظهر روسيا، وانكشفت خاصرتها، لكنها عاودت؛ محاولة النهوض، بوصول فلاديمير بوتين إلى الحكم. عقيدة بوتين، تفترض أن لا أمان لروسيا بغير استعادة حضورها المؤثر في الفضاء السوفييتي السابق، وفي سياق تلك العقيدة، جرت عملية ضم شبه جزيرة القرم، فيما ما تزال محاولة تفكيك أوكرانيا قائمة. زبيجينيو بريجنسكي، مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، هو من نصب الكمين الأفغاني للسوفييت قبل أربعين عاماً، وهو من لام إدارة بيل كلينتون لأنها لم تبذل ما يكفي لتفكيك روسيا، عقب تفكيك الاتحاد السوفييتي. تصدى بوتين لمحاولة تفكيك روسيا انطلاقاً من الشيشان وانجوشيا، ثم راح يتعقب الجهاديين في الشرق الأوسط، ليحصل على موطئ قدم عزيز في سوريا عبر قاعدتين عسكريتين إحداهما بحرية في طرطوس والأخرى جوية في حميميم. لكنه لم يتخل أبداً عن هدفين استراتيجيين، تفوح منهما رائحة الثأر، هذان الهدفان هما: (1) تفكيك حلف شمال الأطلسي.. (2) تفكيك الاتحاد الأوروبي. بالنسبة للهدف الأول، أتاحت الأزمتين «الأوكرانية والسورية» لموسكو امتلاك أوراق ضغط، وخلق مناطق تماس جديدة مع تركيا، صاحبة ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو بعد الولاياتالمتحدة. اصطدم الروس بالأتراك في سوريا، وأسقط الأتراك طائرة روسية، فضلاً عن مقتل السفير الروسي لدى أنقرة على يد من قِيل إنه إرهابي وجدت رصاصاته السبيل مفتوحاً والأبواب مشرعة لقتل السفير على رؤوس الأشهاد. وأسفر الصدام عن فرص للتقارب لم يفوتها بوتين إلى سعي إلى إقناع الرئيس التركي أردوغان بشراء منظومة دفاع جوي وصاروخي روسية متطورة (إس 400)، بتسهيلات غير مسبوقة في الدفع. صواريخ (إس 400) الروسية التي وافق أردوغان على شرائها، بقصد مكايدة واشنطن التي رفضت تزويده بمنظومة باتريوت، من المفترض أن تصل تركيا العام المقبل، وفي حال وصولها، فإن منظومة سلاح الناتو تكون قد جرى اختراقها من قبل الروس، الذين سيجري نشر بطاريات صواريخهم على مقربة من قواعد في تركيا تنتشر بها أسلحة الناتو وطائراته. خطط بوتين لتفكيك الناتو- انطلاقاً من تركيا مستثمراً موقعه الجديد في سوريا وشرق المتوسط-، ليست حلمه الاستراتيجي الوحيد، فالرجل يحلم أيضاً بتفكيك الاتحاد الأوروبي، الذي صوَّت الناخبون في بريطانيا لصالح الانسحاب منه، ما قد يفتح الباب لخروج مزيد من الأعضاء ممن تضرروا بفعل قوانين الهجرة والعمل ، الذين فتحت بلدانهم لمواطني شرق أوروبا الذين يقبلون عادة بأجور أقل، ويعملون بمهارة عالية في نفس الوقت. لا يمكن فهم ما يجري عندنا في الشرق الأوسط في الملفات السورية والتركية والإيرانية، دون فهم منطلقات السياسة الروسية ومحركاتها. أحلام بوتين الاستراتيجية، هي بالضرورة كوابيس لمنافسيه في الإقليم.