أذكر أننا كنا ذات ليلة في سيارته، وكان معنا الإنسان الدكتور عدنان اليافي، وأخي الدكتور زهير حمدان، إضافة إلى كاتب هذه السطور، واتجه بنا «دياب» منطلقًا صوب حارة «برّه»، وأوقف المركبة أمام أحد الأماكن، وأخذ يحدثنا عن النادي الذي أقامه كبار أهل الحي؛ حيث يجتمعون كلّ ليلة لتداول الأحاديث والحكايات وهم يحتسون كؤوس الشّاي، الذي يحلو لأبناء الحارة وصفه ب»النقاوي». وعندما دلفنا إلى داخل المكان وجدنا أنفسنا أمام رجل نحيل الجسم، طلق المحيا.. اختفى الرجل الذي يعرف لدى أهل حارته باسم «أبوفوّاز» أو «المعلم رجب»، وهو اسم الحارة، ثمّ عاد مع أحد أبنائه وهو يحمل آنية الشاي الممزوج بالحليب، وعلمت فيما بعد أنه عندما يقدم ضيف جديد على النادي يقوم أهل الدار بصناعة هذا الشراب الممزوج بشيء من الزنجبيل أو الهيل؛ ليضفي طعمًا ومذاقًا خاصًّا على هذا الضرب من الشراب. وقررنا بعد انتهاء الزيارة أن نكررها؛ لما تركته في نفوسنا من أثر إيجابي، وشعور بالألفة والمودة الصادقة، ولكن الأقدار كانت تخبئ شيئًا آخر؛ فقد حجب الله علم الغيب الكلي واختصّ به ذاته العلية، فلقد مرض فجأة «أبوغنوة»، وعاد من بلاد الفرنجة محمولًا على الأكتاف، ولكن صلتنا ب»أبوفوّاز» لم تنقطع، فهو لا يكفّ عن السؤال عن أحبابه، ويسعى للسؤال عنهم، وفي كلّ المناسبات الاجتماعية التي دعانا إليها هذا الإنسان البسيط في كلّ شيء؛ في لباسه، وفي حديثه - كنت أجد منه وصديقي الشيخ سراج عيّاد جميلَ الرعاية الأخوية؛ فهو يستقبلنا بترحاب، ويشعرنا بالألفة والحميمية، وهي ألفة تزيح الشعور بالغربة، وتبدد الإحساس بالوحدة المقيتة، ثم لا يتركنا في نهاية كلّ مناسبة أخوية إلا وقد ودّعنا مبتسمًا ومستبشرًا ومطمئنًا على المركبة التي تحملنا بين دورنا وموضع المناسبة، وكان المرحوم أبوفوّاز يقوم بهذا وسواه مع الكثير من الإخوة، وخصوصًا في المناسبات التي يقيمها سكان حارة «برّه»، والتي أضحى «رجب» علمًا يشار إليه بالبنان فيها، لدعته، وحسن خلقه، وبشاشة محيّاه من دون تصنّع أو مجاملة. وذكرتني مآثر هذا الإنسان الفريدة وسلوكياته الإنسانية الرفيعة بشخصية عرفتها عن قرب في البلد الحرام؛ وهو «اليابا رجب»، الذي أوقف حياته على رعاية أسرته، تاركًا وراءه مباهج الحياة الدنيا في سبيل غاية أكبر وأجلّ وأعظم؛ ألا وهي صلة الرّحم. ثمّ أعطى من وقته وجهده وماله لأهل حارته، فأنت تجده واقفًا معهم في أفراحهم وأتراحهم، وكأنّه واحدٌ منهم. وإذا أقام أهل المسفلة مناسبتهم السنوية، وغالبًا ما تكون على شاطئ الشعيبة، فهو الذي يأخذ على عاتقه وبنفس راضية كلّ متطلّبات هذه الطلعة - كما يسمّيها أهل الحارة - وهو يقف بصراحة غير معهودة ضد كلّ من لا يلتزم من شباب الحي بالآداب الاجتماعية، ويضطر أحيانًا لركوب المركب الصعب في سبيل غاية أكبر، فلقد شاهدته في عديد المناسبات وهو يطلب من أحدهم مغادرة السيارة التي تحمل بعض رجالات الحي خارج مكة؛ حيث لم يحسن القول أو الحديث أمام من هم أكبر منه سنًّا، ولم يكن أمام هذا الشاب إلا الاستجابة لرغبة «اليابا» في حضرة ووجود من هم أكبر منه سنًّا. وكان «اليابا رجب» لا يثقل على أهل الحي بما لا يقدرون عليه أو يستطيعونه، وخصوصًا أولئك من أصحاب الدخل المحدود، وربما تحمّل عنهم من جيبه مساهماتهم، ويتمّ ذلك في ستر، وبعيدًا عن كلّ منّة وضجيج. «اليابا رجب» يقطع المسافة من مراكز الحي على قدميه، سائلًا عن قريب أو صديق، ومتفقدًا أحوالهم. وكان «اليابا» لاستقامة سلوكه ونظافته موضع التقدير والتجلّة من سكّان الأحياء الأخرى. وفجأة مرض «اليابا رجب»، وتوافد النّاس لزيارته، وأدوّن هنا ما سمعته من الثقات من أهل حيّه وسواهم، بأنّه قبل وفاته طلب من أخيه أن يحمل مبلغًا من المال، ولربما كان كلّ ما خلّفه من متاع الدنيا الفاني، وخاطبه قائلًا: «خذ هذه الأمانة واحملها إلى الشيخ صالح عبدالحي، رحمهم الله جميعًا، ليحتفظ بها وينفقها في المناسبات الاجتماعية كالصلح بين الآخرين.. موقف إنساني رفيع يبرهن على علو الهمّة، وكريم المقصد عند أهل الجوار، وهو ما عبّر عنه أحد أشهر الرحّالة الإنجليز: السير ريتشارد بيرتون Richard Francis Burton في رحلته الشهيرة لأرض الحرمين الشريفين؛ حيث تحدّث بأسلوب أدبي رفيع، واصفًا سلوكيات القوم بعبارته المؤثرة: «المكّي أوّاب بطبيعته»، وتمام الرواية عند عزيزنا الأديب محمّد عمر العامودي، فهو ابن مكّة المكرمة، والمسفلة معًا، ويروي في هذا الشّأن شيئًا كثيرًا». كان صديقنا الرّاحل محمّد صادق دياب يجمع في شخصيته بين الإعلامي والصحافي، إضافةً إلى صيته الأدبي، كما أنّ هناك بعدًا صحافيًا هامًّا تتمتع به شخصيته، وهو القدرة على رواية وسرد تاريخ الحارة وتراثها. ومع أنّه نشأ في حارة البحر؛ إلا إنه كان يرتبط بعلاقات اجتماعية وثيقة مع شخصيات من أماكن مختلفة؛ مثل حارات: اليمن، والمظلوم، والشام والنزلة، وحارة «برّه»، وهو يجد نفسه في هذه الحارة وأهلها الطيبين الأنقياء أكثر ما يجدها في أيّ مكان آخر.