إن المسارعة إلى التحريم والتحليل لا عن نص أو إجماع جريمة كبرى لا يرضاها الله، وتضر بعباده ضررًا جسيمًا، حيث قد تحرِّم عليهم ما أباح الله لهم، أو قد تجعل شيئًا قد حرَّمه الله عليهم مباحًا، وثبت ذلك بالدليل القطعي، الذي لا يحتاج إلى تأويل، وأدلة هذا لا حصر لها في هذا الدين الحنيف، فربنا عز وجل ينبهنا إلى ذلك فيقول: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)، ويحذرنا الله من القول بلا علم فيقول: (قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فبيَّن الله لعباده عظيم ما حرَّم من سائر الفواحش التي تنفر منها النفوس السوية، ويجمع الناس على استنكارها، سواءٌ أكانت ظاهرة أم باطنة، وكل ما أدى إلى أن يترتب على فعله وقوله الإثم، ثم الجريمة العظمى التي تؤدي إلى اختلال الحياة، واضطرابها وهي البغي، الذي يثير في المجتمعات الكثير من الجرائم، التي تأباها النفوس السوية المؤمنة، والتي أظهرها اليوم الإرهاب بما اشتمل عليه من قتل وفواحش ترتكب في حق الرجال والنساء، والاستيلاء على الأموال دون وجه حق، والعدوان على الأنفس، والتدمير للعمران والحضارة ومما هو واضح وضوح الشمس، في كل ما يترك الإرهاب من الآثار، ولعل سبب ذلك كله القول على الله بلا علم، حيث يحرِّم الباغي ما أحلَّ الله ويبيح ما حرَّم دون وعي أنه يرتكب الفظائع ودون أن يعلم فعلًا أن ذلك لا يباح لأحد، ويحذر الله عز وجل أن يحرم الإنسان الرزق الذي أباحه الله تشددًا فيجعل منه حلالًا وحرامًا بالهوى، ودون أن يكون مأذونًا له في ذلك، افتراء على الله، وقد ظهر هذا فيمن يغلون في الدين، فلا يتركون شيئًا من المباحات، إلا وجعلوا بعضه مباحًا وآخر حرامًا بهوى أنفسهم التي أضلتهم، وليس لهم على ما يقولون دليل يثبت لهم ما ادعوه، ولعل المتتبع لمثل هؤلاء يعرف مدى ما ينشرونه من ضلال، ويحرمون عباد الله مما أحل لهم دون وجه حق، سوى أنهم يحكمِّون آراءهم الفاسدة من التحريم والتحليل دون أن يستندوا إلى دليل، ولعل مثل هؤلاء جميعًا لا يعرفون معنى حقيقيًا للاجتهاد، الذي هو عصمة لهذا الدين من الخلل، والذي لا يؤتاه من العباد إلا من عكف العمر كله على علوم الدين يتعلمها، ويتعلم الأدوات التي تمكنه من إدراكها بحق، ثم العلم بها يقينًا عبر أدلتها المفصلة لأحكامها، والذي كان يمنعه أن يقول على الله بلا علم ولا دليل، لذا حذرنا الله من سلوك كان عند أمة سبقتنا فيقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فحرَّم الله علينا أن نقدِّس العلماء ونتبع ما يقولون دون أن نعلم أن ما يقولونه حقًا، فعندنا أن العالم لا يشرع أحكامًا، وإنما يجتهد لكشف حكم الله الوارد بالنص لا أكثر، أما أن تؤدي فتواه إلى حل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحل الله، فهذا أمر مردود عليه لا يقبل منه، فديننا لا يعرف الكهنوت، وأن ما يفرضه الآباء والرهبان هو الدين، ولكن هذا أيضًا لا يعني الإجحاف بحق العلماء الذي يتبعون ما أنزل الله ولا يحكمون بغير الدليل، وغايتهم أن يعلم الناس دينهم دون شطط، فالحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه مما عفا الله عنه فلا تتكلفوه، كما جاء في الحديث، وعصرنا وللأسف ملأته الدعاوى الباطلة، فمن غلاة يرون أن المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا آمن بما يقولون، ومتحللين من أحكام الدين لا يقبلون من أحد أن يقول لما حرم الله أنه الحرام، ولا خير فينا ما لم نتبع الحق ونتبين دين الله الوسط الذي شرعه لنا، فلنسع إخواننا جادين لمعرفة الحق وأن ننبذ الباطل ما استطعنا، فهذا ما يرضي ربنا عز وجل وهو ما إليه يهدي هذا الدين، وبالله التوفيق.