فجعتُ، كمَا فُجع لفيفٌ كبيرٌ من الأصدقاءِ المحبِّين لمعالي الأستاذ الدكتور غازي عبيد مدني، بنبأٍ زلزل أفئدتنا، وهزَّ مشاعرنا، وتوقَّفت الحياةُ، وشعرتُ باختناقٍ، فكأنَّ حلقي قد أُقفل. كنتُ في ذلك اليوم (الجمعة المباركة) في الأردن، فعلمتُ بفاجعةِ انتقال حبيبنا، وصديقنا، وأخينا معالي الدكتور غازي عبيد مدني إلى الرفيق الأعلى، ولم أتمكَّن من البقاء ثانيةً واحدةً، وهرولتُ عائدًا إلى أرضِ الوطن؛ لكي أشارك في تشييعه إلى مثواه، ولكنَّ ظروف الطيران حالت دون تحقيق رغبتي لذلك. وقد عرفتُ الأخَ غازي مدني منذ انضمامي لجامعة الملك عبدالعزيز، بين الحياء والأدب الجمِّ، وقد عُرف عنه الانضباط، وبساطته، وقربه لطلابه وإخوانه. لقد رأيته، وتلمَّستُ بعضًا من صفات شخصيَّته الفذَّة في مواقف عدَّة، أذكرُ منها -على سبيل المثال لا الحصر- أنَّه كان وكيلاً للجامعة، وكان يوصينا بالطلاب خيرًا. رأيته بعد ذلك عميدًا لكليَّة الاقتصاد والإدارة، حيث كان يخوض غمار تطوير المنهج الأكاديمي في الكليَّة، بالرغم من العبء الإداري الذي تحمَّله، إلاَّ أنَّه لم يترك يومًا قط تدريس طلابه، أو المشاركة في اللجان الأكاديميَّة والإداريَّة، وإجراء البحوث العلميَّة. حينما أراد وليُّ الأمر أنْ يكلِّفه بمهام أخرى، فأُخبرت بأنَّه -رحمه الله- سوف يتمّ تكليفه بإدارة الجامعة، وكان يومها قد سافر إلى قاهرة المعز، فاتَّصلتُ به -هاتفيًّا- للعودة إلى المملكة، دون أن أبوحَ له بسرِّ ذلك، فكانت إجابته: على السمع والطاعة. كان أبو عبيد يعرفُ كيف يختار الأكفاءَ من الإداريين والأكاديميين للمناصب الإداريَّة والقياديَّة لجامعة الملك عبدالعزيز؛ ممَّا ساعدني كثيرًا من أن يكون أبو عبيد واحدًا من الحكماء الذين اخترتهم، فكان -رحمه الله- مصيبًا في ترشيحه، بالرغم من اعتراض البعض على ذلك التَّرشيح. زاملته أثناء قيادته للجامعة، وحيث بدأت الجامعةُ في مخاض للارتقاء إلى المستوى الأكاديمي الذي كان يحاول أن يوفق به بين الأنظمة والنظام، وبين رغبات المواطنين وأنظمة الجامعة، وبين متطلبات الكليَّات وضيق اليد. وما أكثر المواقف الصعبة التي مرَّ بها مع هذه المشكلات! وكم من مرَّة كنتُ أراه يشتاطُ غضبًا، ولم أسمعْ في يومٍ ما أنَّه قد أخطأ لفظًا، أو إشارةً، أو همزًا، أو لمزًا على أحد، كيف لا وهو من أسرة كريمة، مشهود لها بالارتقاء عن الصغائر، كان خلقه الحميد سيَّد الموقف، وكان الصمتُ ملاذه في معظم الأحيان. ثمَّ ترجَّل عن موقعه في إدارة الجامعة بعد نشاط مستمر لخدمة محبوبته جامعة الملك عبدالعزيز، وإذ به ينتقل إلى رئاسة مجلس إدارة مؤسَّسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، حيث ساهم بقوَّةٍ وإخلاصٍ لتسيير هذا المرفق الإعلامي الهام، كان مخلصًا لمبادئه، ثريًّا في إنجازه، وكنَّا نجتمعُ شهريًّا مع مجموعة من مسؤولي الجامعة، وغاب عنَّا في اجتماع غير بعيد، وعلمتُ بوجوده في مستشفى الملك فيصل التخصُّصيِّ بجدَّة، فهرولتُ -مع رفيق دربي أخي الفاضل الدكتور ناصر السلوم- وعند وصولنا إلى باب غرفته، وقابلنا بعضًا من آل بيته معتذرين عن عدم إمكانيَّة زيارته، إلاَّ أنَّ غازي القلوب نادى بصوتٍ خافتٍ: «لقد تجشَّما عناء الحضور إلى المستشفى، فكيف تحجبونهما عن زيارتي، هؤلاء هُمَا رفيقَا دربِي، وصفوةُ أصدقائِي»، فولجنا إلى غرفته، والخجل يغطينا من معدنه الجمّ، وأخلاقه الراقية. وسألته من مجال عملي عمَّا يشكو منه، فأجابني بأنَّه يشكُو من وخز بساقيه، ودَّعته بسببِ سفري إلى الأردن، على أمل أن أعودَ لزيارته عند عودتي إلى أرض الوطن، إلاَّ أنَّ يدَ المنون قطفتْ هذه الزهرة الزهيَّة.. هذا الرجل الحبيب، والصديق الوفي.. وأراد اللهُ أن تكونَ وفاتُه ظهرَ يوم الجمعة، والنَّاس يتَّجهون إلى الصلاة، وإنَّني أسألُ اللهَ أن تكونَ وفاته في العاشر من الشهر الحرام (رجب)، وفي يوم الجمعة المباركة، وأن يكون مرقده في بقيع الغرقد بمدينة طيبة الطيبة من علامات القبول، وإنِّي أسألُ المنَّانَ الحنَّانَ أن ينزلَ على آل مدني سكينته، ونسأله أن يبدله دارًا خيرًا من داره، وأن يغفر له، وأن يجعل قبره روضةً من رياض الجنَّة. وإذ كُنَّا نبكي أنفسنا لفراقه، ولا نقول إلاَّ كما قال سيَّدُ الخلق صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «إنَّا لفراقِكَ يَا أبَا عبيد لَمَكلومُونَ». «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون»