لم يكن السيّد غازي مدني سيِّدًا في نسبه الطاهر فقط، بل كان سيِّدا في أخلاقياتهِ وسلوكياتهِ التي لا يمكن أن تحيط بها كلمات وعبارات أكتبها وأسطرها بعد أن تلقَّيتُ نبأ وفاته المفجع والمحزن في آن، فلقد عرفتُ أبوعبيد منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، والتي تنقَّل فيها -رحمه الله- في مناصبٍ عدّة، بدءًا من عمادة كلية الاقتصاد والإدارة لأكثر من مرَّة، ثم وكيلًا لجامعة المؤسس، وعميدًا لمركز بحوث الاقتصاد الإسلامي، ثم مديرًا للجامعة نفسها، وأزعم أنه واحدٌ من أبرز المسؤولين الذين تقلَّدوا قيادة هذا المركب في خِضَم ظروف صعبة، وكان بحنكتهِ ومعرفتهِ الإدارية العميقة، وسعة صدره ونظافة سلوكه، قادرًا على الاجتياز بهذه المؤسسة التعليمية إلى برِّ الأمان، وهذا لا يُقلِّل مِن جهود مَن سبقه أو لَحق به من المسؤولين عنها، ولكنَّه -أعني أبا عبيد- كان دومًا -رحمه الله- مع مَن يعمل معهم الأب والأخ، والرفيق والصديق، وكل المرافق التي تولَّى مسؤوليتها، ومنها هذه الصحيفة الغراء، التي آزر فيها آباؤه -أعني السيَّدان عبيد وأمين مدني- رفاق دربهم السيِّدين علي وعثمان حافظ عند تأسيسها في طيبة الطيبة، في منتصف القرن الماضي، وبعيدًا عن الإنجازات المتعددة التي قام بها في الجامعة، ومنها ما أخذه على نفسهِ من وعدٍ لم يكن سهلًا آنذاك، بإنشاء جامعةٍ وليدة في مهد الإسلام ومنطلق الرسالة، وحملت اسم «طيبة الطيبة»، غير بعيد عن موقع بستان أم شجرة، الذي أقام فيه جدّ الأسرة السيِّد عبدالله مدني منتدىً أدبيًا ينشدُ فيه محمد العُمري الواسطي إبداعاته الشعرية مع رفاقهِ، من أمثال البرَّادة والاسكوبي والعشقي، وخلال عمله عقدًا كاملًا من الزمن في رئاسة مجلس إدارة هذه الصحيفة، أنجز العديد الذي يُحسب له، حيث قام -رحمه الله- مع المسؤولين بالصحيفة، بإنشاء مطابعها الحديثة، ويَذكر له العاملون فيها بصدق حدبهِ وعطفهِ عليهم، فقد كنتُ أُرافقه ذات يومٍ في شهر رمضان المبارك في رحلةٍ مفاجئة، فرأيتُه يقف على رؤوس العاملين، وخصوصًا أولئك الذين يُؤدّون عملهم الهام في المطبخ الصحفي، فيضع يده الحانية على رؤوسهم، ثم يطرق فجأةً بعض أبواب مديري التحرير، ولا يبخل عليهم بتشجيعٍ ومؤازرةٍ، هما من لوازم العمل الإداري الناجح. نعم، لقد كان غازي مدني نظيفًا في كل شيء، بدءًا من الثوب الذي يرتديه بهيًا وجميلًا، ومرورًا بالابتسامة الصادقة التي ترتسم على محياه، وانتهاءً بعفّة اليد واللسان، التي أزعم أنني أعرف الكثير من شواهدها الصادقة، فقد كنتُ يومًا أُحدّثه عبر الهاتف، فخاطبته باللقب الذي يستحقه عن جدارة -كلمة معالي- فردَّ بأدبٍ ولطفٍ هما من لوازم شخصيته النادرة، أرجوك خاطبني أخي غازي، ثم أضاف مُتكرِّمًا كعادته: أنت تتحدَّث باسمي وتوعد باسمي، فعلمتُ عندئذ أنني أمام رجلٍ مِن أبرز رجالات العصر، وأنه ساهم في بناء الكثير من الإنجازات الإدارية والعلمية والفكرية، خدمةً لدينه ومليكه ووطنه. اليوم يا أبا عبيد، يرقد جسدك في الترب المبارك في ربوة آل البيت، في بقيع العمّات، وفي الجوار المبارك، حيث كنتَ دومًا مُتطلِّعًا لمثل هذا الجوار الكريم. وأختم قائلًا: رحمك الله يا مَن يستحق أن يُوصف بأنَّه بقية الناس.