يستعد جاري الإسباني في مدريد لزيارة بيت المقدس في فلسطين، وهي المرَّة الأولى التي يزور فيها المشرق العربي، مع أنَّ شجرة عائلته التي يعتزُّ بانتمائه إليها ترجع جذورها إلى دمشق الشام. وقد زارني ليثري معلوماته عن مشرقنا العربي، وما تعنيه مدينة القدس لنا نحن المسلمين، وما إذا كان بيت المقدس من ضمن مقدَّساتنا أم أنَّ قدسيَّته محصورة بالنصارى من العرب! سرَّتني صيغة سؤاله التي ربطت بين قدسيَّة المكان وارتباط العرب مسلمين ونصارى به. بطبيعة الحال كان ردِّي أنَّ بيت المقدس كان القبلة الأولى لأتباع الديانات السماويَّة كافَّة. ولذا فنحن أتباع الديانات الإبراهيميَّة، نعتزُّ جميعنا عربًا بأنَّ الخالق جلَّت قدرته اختار أنبياءه ورسله من بني قومنا. وبيت المقدس من الأماكن الثلاثة التي تُشدُّ إليها الرحال؛ المسجد الحرام في مكَّة المكرَّمة الذي رفع قواعده أبوالأنبياء إبراهيم عليه السلام، وبيت المقدس الذي شهد ولادة الديانة النصرانيَّة وحياة السيِّد المسيح داعيًا قومه للمحبَّة، وهي أيضًا المدينة التي أسرى الله إليها رسولنا الكريم من المسجد الحرام في مكَّة المكرَّمة، ليصلِّي في رحابها المقدَّسة. وعاد في الليلة ذاتها إلى مكَّة المكرَّمة، واصفًا الطريق لصحابته من أشراف قريش، وما مرَّ به من محطَّات كانت قوافل قريش ترتادها. ثمَّ المكان المقدَّس الثالث؛ مسجده الحرام في المدينة المنوَّرة. فبهذا الجمع بين الأماكن الثلاثة المقدَّسة عندنا، يتجسَّد إيماننا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا نفرِّق بين أحد من رسله، ونشترك مع النصارى في الإيمان برسالة سيِّدنا عيسى بن مريم، ونشاركهم أفراحهم وأحزانهم من اليوم الأوَّل الذي تسلَّم فيه الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه مفتاح مدينة القدس من صفرونيوس الدمشقي؛ بطريرك القدس عام 638م، وتسلَّم منه البطريرك الخطاب التاريخي الذي عرف ب»العهدة العمريَّة» التي أعطت أهالي القدس: «أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملَّتها. وأنَّه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم». منذ ذلك التاريخ، وبيت المقدس وما حوله من أراض مباركة من الأماكن المقدَّسة التي يقصدها المسلمون على تعدُد أصولهم وأعراقهم للزيارة الدينيَّة بعد قصدهم مكَّة المكرَّمة للحجِّ والمدينة المنوَّرة لزيارة الحرم النبوي الشريف. توقّفت زيارتنا لبيت المقدس عام 1967 لوقوعها تحت أسر الإسرائيليِين. لكن سنعود لزيارتها إن شاء الله حالما يُتاح للفلسطينيِّين إقامة دولتهم المستقلَّة وعاصمتها القدس الشريف، وجلاء قوَّات الاحتلال الإسرائيلي عنها. كان ذاك ردِّي على الجار الإسباني وبتمنيَّات رحلة سعيدة إلى الأرض المقدّسة، وعود بالسلامة إلى مدريد. بادلني بتمنِّيات قيامنا معًا بزيارة للقدس في المستقبل القريب.. حيث أكد أنه: «لا احتلال دائم، ولا قهر مستمرٌّ ما دام هناك أصحاب حقٍّ يطالبون بعودة أرضهم إليهم. وأنَّه لم يعد مقبولًا تضامن القوى المتحكِّمة في مصير العالم مع حلم الصهاينة في التوسُّع لبناء إسرائيل الكبرى، مشتِّتة شعوب المشرق العربي لإيواء يهود العالم من أصول وأعراق متعدِّدة. ولكلِّ ظالم نهاية عند شعب يريد الحياة.