قدّرت دراسة الاستثمار في رأس المال البشري واقتصاد المعرفة التي ناقشها منتدى الرياض الاقتصادي في أولى جلساته أمس الفاقد المالي المترتب على بطالة المتعلّمين في سوق العمل بنحو 170 مليار ريال عام 1428-1429ه، وهو ما يفوق الاعتمادات المالية للتعليم في العام نفسه والبالغ قدره 105 مليارات ريال.. ودعت الدراسة إلى ضرورة إيجاد هيئة عليا أو مجلس أعلى للاقتصاد المعرفي تكون له اختصاصات أو سلطات تمكنه من طرح رؤية إستراتيجية وقدّرت الدراسة الفاقد المالي الناجم عن الرسوب بنحو 4 مليارات ريال، وعن التسرّب بنحو 12.8 مليار ريال، بما يعادل 23% من جملة المخصّصات المالية المقرّرة للتعليم العام (1427-1428ه).. وأوضحت الدراسة جسامة الأمر بالنسبة للإناث، حيث يصل الفاقد في حالة المتعطلات الحاصلات على شهادة البكالوريوس أو الليسانس إلى نحو 83 مليار ريال.. وبرغم تعادل نصيب الذكور والإناث من الإنفاق العام على التعليم إلا أن معدل البطالة يصل إلى نحو 25% في حالة الإناث مقابل 7% فقط في حالة الذكور، دلالة على ضخامة الهدر المالي الناجم عن تعطل الإناث بعد إتمامهن مراحل التعليم. هدف الدراسة تهدف هذه الدراسة إلى تحليل أسباب قصور فاعلية الاستثمار في رأس المال البشري، وإلى طرح رؤية مستقبلية لتفعيل دوره في بناء الركائز الأساسية التي من شأنها تسريع انتقال المملكة إلى الاقتصاد المعرفي في مدى زمني مناسب (1430-1450ه).. وتتمثل هذه الركائز في نظام تعليمي وتدريبي متطوّر لتوفير العمالة المؤهّلة والماهرة، وبنية معلوماتية حديثة لتيسير اكتساب وتطبيق المستجدّات من المعارف والتقنيات بالإضافة إلى نظام فعال لتنمية القدرات البحثية والملكات الابتكارية، وإطار مؤسسي ومناخ اقتصادي موافقين لاكتساب المعرفة ونشرها وللتوزيع الكفء للموارد. وتتناول الدراسة تحليل الوضع الراهن للاستثمارات في مجال تنمية رأس المال البشري من منظور الفاعلية والكفاءة وتقويمه، وتستعرض تجارب بعض الدول والاقتصاديات الناشئة ذات السبق المعرفي، ثم تنطلق من تشخيص الأوضاع القائمة والدروس المستخلصة من التجارب الدولية إلى تقرير المتطلبات والأولويات ومحاور التحرّك التي من شأنها تعزيز دور الاستثمارات الموجّهة للتنمية البشرية في بناء الاقتصاد المعرفي وفق رؤية طويلة المدى تطرح أهدافاً وسياسات وآليات تنفيذ محدّدة. فاعلية الاستثمار في رأس المال البشري أشارت الدراسة إلى التواضع النسبي لمساهمة التنمية البشرية في النمو الاقتصادي حيث لم تتجاوز 7%، في حين أنها تزيد عن 20% في كثيرٍ من الدول الصناعية المتقدّمة والاقتصاديات الناشئة التي ترغب في الانطلاق في رحاب اقتصاد المعرفة.. وكذلك أظهرت نتائج الدراسة أن مساهمة الإنتاجية الكلية للعناصر في النمو الاقتصادي جاءت سلبية، بنسب مساهمة تراوحت ما بين -14% و-24%، وأنه خلال الفترة (1975 - 2007م) التي بلغ خلالها معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي 6.8% - كانت مشاركة رأس المال بنحو 5.2 نقاط مئوية، والعمل بنحو 2.6 نقاط مئوية، بينما ساهمت الإنتاجية الكلية للعناصر بصورة سالبة بنحو نقطة مئوية واحدة، وهو ما يعكس استمرار اعتماد المملكة - بدرجة كبيرة - على تراكم رأس المال المادي في النهوض بالقدرات الإنتاجية وفي تواصل معدلات النمو الاقتصادي.. وبالمقابل أبرزت الدراسة ضَعف العلاقة الارتباطية بين المستوى التعليمي للقوى العاملة والإنتاجية المتوسطة بوجهٍ عام (باستثناء القطاع النفطي)، وأشارت التقديرات إلى عدم حدوث تحسّن ملموس في إنتاجية العمل على امتداد الفترة (1999- 2008م)، سواء في القطاع الخاص غير النفطي أو القطاع الحكومي. كفاءة الاستثمار في رأس المال البشري كشفت الدراسة عن قصور كفاءة منظومة التنمية البشرية، بأبعادها المختلفة، وبصفةٍ خاصة الكفاءة الداخلية والخارجية لمنظومة التعليم والتدريب.. فعلى الرغم من تخصيص نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي وما يعادل 25% من الميزانية العامة للدولة للإنفاق على التنمية البشرية - وهي نسب مرتفعة بالمقاييس العالمية - إلا أن كفاءة الاستثمار في رأس المال البشري لم ترتقِ بعد إلى المستوى المنشود الذي من شأنه تمهيد السبيل وتسريع الخُطى لانتقال المملكة إلى مصافّ اقتصاديات المعرفة.. وقد أرجعت الدراسة جوهر المشكلة - بالدرجة الأولى - إلى النمط السائد لتوزيع الاعتمادات المالية بين أوجه الإنفاق على تنمية الموارد البشرية، الذي يركز على اعتبارات (الكم) قبل (الكيف).. ويعاني من اختلالات كبيرة أثّرت سلباً على الركائز الأساسية لبناء الاقتصاد المعرفي، وحالت بالتالي دون التقدّم السريع للمملكة في تدعيم هذا البناء. وفي مجال التعليم والتعلّم والتدريب - وهو أهم ركائز الاقتصاد المعرفي - بيّنت الدراسة توجّه أغلب الاعتمادات الحكومية للتعليم العام والعالي وعلى حساب التدريب التقني العالي والمتوسط، وهو ما يأتي انعكاساً للهيكل التعليمي حيث لا تتعدى نسبة الطلبة المقيّدين بالتدريب التقني 8% من إجمالي المقيّدين بالتعليم العالي، وتتدنّى إلى أقل من 1% في حالة التدريب التقني المتوسط. وعلى مستوى التعليم العام، أشارت الدراسة إلى أن هناك اختلالاً واضحاً في هيكل التعليم الثانوي لصالح الأقسام الأدبية والدراسات الشرعية، ويقابله اختلال آخر في هيكل التعليم العالي لصالح الدراسات الإنسانية والاجتماعية التي تستأثر بنحو ثُلُثي أعداد الطلبة المنخرطين في التعليم العالي مقابل الثُلُث فقط في الدراسات العلمية والطبيعية والتي تُشكِّل عماد الاقتصاد المعرفي وكشفت الدراسة عن عدد من الاختلالات الأخرى التي تعاني منها منظومة التعليم والتعلّم والتدريب منها ضَعف الاهتمام بالتعليم المستمر (طوال الحياة) بأشكاله المختلفة: (التعلّم عن بُعد، التعليم الموازي، التعليم المسائي)، والذي تستوعب مؤسساته 6% فقط من جملة المقيّدين بالتعليم العالي (1426-1427ه)، ومحدودية الدراسات العليا بالجامعات السعودية والتدنّي الشديد في أهميتها مقارنةً بدراسات مرحلة البكالوريوس، حيث لا تتعدى أعداد الطلاب المسجّلين بالدراسات العليا 3% فقط من جملة المقيّدين بالتعليم العالي (1426-1427ه)، إلى جانب تواضع أعداد الطلبة المبتعثين في الأعوام السابقة حيث بلغ عددهم 12 ألفاً في عام 1427ه ، مع ملاحظة تزايد عدد الابتعاث في السنوات الأخيرة حيث تم ابتعاث 15000شخص عام 1428ه و15000 عام 1429ه و18000حتى عام 1430ه. وأشارت الدراسة إلى محدودية الموارد المخصّصة لنشاطات التدريب وقصور مُخرجاتها كماً ونوعاً، حيث تقل مخصّصات المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني عن (4) مليارات ريال سنوياً وتعادل على أقصى تقدير 4% من إجمالي الإنفاق العام على تنمية الموارد البشرية مشيرة إلى أن ذلك لا يتناسب مع الخطط التوسّعية الطموحة التي تتبنّاها المؤسسة للسنوات القادمة، في ظل عدم مواءمة مخرجات بعض المؤسسات التعليمية والتدريبية في المملكة لسوق العمل ومؤكدة على ضرورة إعادة تأهيل وإعداد تلك المخرجات لتتوافق مع متطلبات سوق العمل. وكشفت الدراسة أن توزيع الاعتمادات الحكومية بين أبواب الميزانية يعكس استئثار الرواتب والأجور بالشطر الأكبر من ميزانيات وزارتي التعليم العام والتعليم الجامعي والعالي (85% في المتوسط) بما لا يسمح بالوفاء بمتطلبات تمويل الأبواب الأخرى من نفقات صيانة وتشغيل متكررة ومشاريع استثمارية. ونوّهت الدراسة بضعف علاقات الترابط بين جهود البحث العلمي والتطوير التقني ومسارات النمو الداعمة لاقتصاد المعرفة مشيرة إلى أن المراكز البحثية الملحقة بالجامعات يغلب عليها الطابع الأكاديمي وتوجّه بحوثها في الأساس لأغراض الترقي في السلم الوظيفي الجامعي دون الارتباط الوثيق والمباشر بقطاع الأعمال ومتطلباته من تطبيقات البحث العلمي والجهود الابتكارية بالإضافة إلى أن نظم الاتصالات وتقنية المعلومات ما زال دورها حتى الآن غير مؤثر بصورة فاعلة في دعم المنظومة التقنية للتعليم العام والعالي، ولتضييق الفجوة الرقمية في المملكة.. وأشارت الدراسة إلى أن الاختلالات سالفة الذكر أدّت إلى انخفاض جودة العملية التعليمية التي ضاعف من حِدتها تقليدية المناهج الدراسية وأساليب التدريس ونظم تقويم الأداء ومحدودية تقنيات التعليم بوجهٍ عام.. مبيّنة أن الاختلالات في ارتفاع معدلات التسرّب والرسوب وإعادة القيد وعدم توافق مُخرجات التعليم والتدريب والمراكز البحثية انعكست على احتياجات سوق العمل ومتطلبات الاقتصاد المعرفي من التخصّصات والمؤهّلات العلمية والخبرات المهنية والتقنية، مما أدى إلى تنامي حجم الهدر المالي ومشاكل البطالة والإنتاجية المنخفضة للعمل. مركز المملكة على خريطة الاقتصاد المعرفي وفقاً لأدلة الاقتصاد المعرفي الصادرة عن البنك الدولي (2008-2009م)، تشغل المملكة مركزاً وسطاً بين الدول المكوّنة لمجتمع الدراسة (140 دولة)، حيث يأتي ترتيبها ال (65) مسجّلةً بذلك 5.15 درجة من الدرجة القصوى للتقويم (عشر درجات).. وعلى الرغم من ذلك تحتل المملكة مركزاً متقدّماً بالمقارنة بدول نامية أخرى عديدة، غير أن ترتيبها متأخر نسبياً قياساً بالدول الصناعية الكبرى وبعض الاقتصادات الناشئة سريعة النمو، مثل ماليزيا وسنغافورة وجنوب إفريقيا. وبوجهٍ عام، فقد نجحت المملكة خلال الفترة (1995 - 2008م) في إحراز تقدّم نسبي في مركزها الدولي على خريطة الاقتصاد المعرفي، حيث ارتقى ترتيبها من (74) في بداية الفترة إلى (69) عام 2007م، ثم إلى (65) عام 2008م، وكان الأداء أكثر تميّزاً بالنسبة لدليلي التعليم والاتصالات وتقنية المعلومات، وبدرجة أقل بالنسبة لدليل الإطارين المؤسسي والتنظيمي وبيئة الأعمال، في حين تخلف أداء المملكة فيما يخص دليل البحث والتطوير والابتكار. نتائج الدراسة دعت الدراسة إلى أهمية تبنّي منهج التوافق الاجتماعي لبناء مجتمع المعرفة من خلال مشاركة كافة كيانات المجتمع بما يمكّن من إحداث تغيير جذري في الاتجاهات الفكرية والقيم السلوكية وبما ينمّي الإدراك الواعي والشديد بالحاجة إلى الإنجاز ويوفر الإرادة القوية للتغيير والتحرّك الفاعل صوب الاقتصاد المعرفي.. مشيرة إلى أهمية التراكم المعرفي - وليس التراكم الكمي لعناصر الإنتاج أو الموارد العينية - في دفع عجلة النمو وتنويع الهيكل الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة. وطالبت الدراسة باتساع مفهوم الاستثمار في تنمية رأس المال البشري لتشمل عناصره صور الإنفاق على التعلّم كافة - بجانب التعليم العام والجامعي - كالتعلّم طوال الحياة والتعلّم التقني والتعليم الإلكتروني والتعلّم عن بُعد والتدريب المهني، بالإضافة إلى الإنفاق على البحث والتطوير والابتكار، والإنفاق على العلوم وتقنية المعلومات والاتصالات وضرورة تكثيف الجهود التنموية على كافة الركائز والمحاور الأساسية للاقتصاد المعرفي لتسريع الانتقال المتوازن مع مراعاة التركيز على محور (التعليم) قبل كل شيء باعتباره المدخل الرئيس لتنمية الموارد البشرية . وأكدت الدراسة على ضرورة إتاحة التعليم للجميع وإلزامية التعليم لمراحل متقدمة في التعليم العام وزيادة معدلات القيد والتوسّع في تعليم الكبار ونظم التعلّم المستمر، والارتقاء بجودة التعليم في كافة مراحله بتطوير المناهج وأساليب التدريب والاستفادة من تقنيات الاتصال والمعلومات في منظومة التعليم (مناهج المدارس الذكية والجامعات التكنولوجية) إلى جانب التركيز على العلوم الحديثة في مجالات الهندسة والعلوم الطبيعية والاتصالات الداعمة للاقتصاد المعرفي ، والتركيز على التعليم والتدريب التقني من خلال التوسّع في المدارس والمعاهد التقنية وكليات التقنية وكليات المجتمع ومراكز خدمة المجتمع. ودعت الدراسة إلى ضرورة تواجد هيئة عليا أو مجلس أعلى للاقتصاد المعرفي تكون له من الاختصاصات أو السلطات ما يُمكنه من طرح الرؤية الإستراتيجية وما يتبعها من سياسات وخطط، ومن إصدار القرارات وإنفاذها عملاً، وبما يضمن تضافر الجهود والتنسيق المستمر بين أصحاب المصلحة مع التأكيد على المسؤولية المشتركة لكافة أصحاب المصلحة في بناء الاقتصاد المعرفي، مع مراعاة أن تكون الريادة للقطاع الحكومي من خلال دوره في توفير الأُطُر التنظيمية والإشرافية والاعتمادات المالية لإقامة البنية الأساسية والإنفاق على التعليم والمراكز البحثية، مع إشراك قطاع الأعمال الخاص وتنظيمات المجتمع المعرفي - بصورة فاعلة ومتزايدة - في منظومة الاستثمار في رأس المال البشري.