تحيط بنا الحروب والأزمات في دوائر جغرافية متعددة في أماكنها وتنوع طبيعتها،وبتعاظم الأزمات وتنامي تعقيداتها يظل الفكر الإنساني بما فيه من تنوع أيضاً هو المحرك والموجه لفعاليات الحروب وغيرها من عمليات حربية تحدث في غير زمن الحرب.. ولأن الإنسان هو الفاعل وهو المحرك للحرب وهو وقودها الذي لا ينتهي فإن المكتبة العالمية تزخر بالكثير من قصص الحرب وسير المقاتلين.. ولا تزال مدرسة الحرب الغربية، وهي الأكثر التصاقاً بالسياسة الدولية تصدر فنون الحرب وعلومها وتصنع آلاتها وتقفز بطبيعة الحرب دائمة التغيُّر من جيل متقدم إلى أجيال أكثر تقنية واحترافاً.. ورغم تغيرات فن الحرب وما فيها من سياسات حربية وتطورات صناعية إلا أن من ثوابتها على مر التاريخ أن قتلى الحرب وشهداءها ظلوا الأفضل قدراً والأبرز تفاعلاً على المستويات الوطنية في أدبيات القتال وثقافة الحروب. أسئلة كثيرة ومثيرة تتجدد حول موضوع هذه المقالة أتمنى أن أسهم في تسليط الضوء حوله بهذا الجهد المتواضع.. وقد سألني أحد الصحفيين عن آخر كتاب قرأته, وكان ذلك ضمن مقابلة صحفية عن مشوار حياتي المتواضع نُشر مؤخراً.. وكانت إجابتي حول الكتاب أنه: (كتاب الشهادة والشهداء في الإسلام).. وبعد نشر المقابلة تلقيت إشادة قوية من بعض من قرأ مثلي هذا الكتاب الذي نُشر في الرياض مؤخراً.. وكان ما ورد في إشادة الآخرين بمحتويات الكتاب متفقاً مع قناعتي بجودة وجدة مضامين الكتاب، وذلك ما زاد من احترامي الكبير لمؤلفه الذي تمكَّن بعمل غير مسبوق من رصد التجربة السعودية ليخصص لها فصلاً متميزاً بالعرض والتحليل والتأصيل لتكريم الشهداء وأسرهم. ثم إن ما زاد من تقديري لهذا العمل الفكري الكبير والمؤصل تأصيلاً رائعاً أنه لا يُحاكي فقط، بل يتفوق على كثير مما يعرض في قاعات الدراسة والمناقشات في المدارس الحربية والعسكرية العليا في دول متقدمة.. فبعد تقويم مستمر وتحليل مكثف لوقائع الحروب والأزمات اتضح لكُتَّاب التاريخ وفلاسفة الحرب أهمية تسليط الضوء على العلاقات البشرية تحت لهيب النيران وأزيز الرصاص.. وفي ظل الأزمات تتجلى أسمى معاني التضحية بالنفس في ظروف وأحوال يبرز فيها الشرفاء الأكثر وفاءً ونبلاء لبلادهم ومجتمعاتهم، وتلك زوايا مهمة لم يغفلها الكتاب وعالجها بشكل جميل. وتبرهن سجلات الحروب والأزمات الكبرى أن الانتصارات في مجملها تتم على أيدي الشجعان الذين يموت الكثير منهم في أرض المعارك لتصبح سيرتهم وتضحياتهم منطلقاً نحو غد أفضل ونبراساً لأجيال قادمة.. وحتى الهزائم في أحوال كثيرة لا تخلو سجلاتها من تضحيات مشهودة تستحق البحث والتحليل والاعتبار والإشادة أيضاً, وكل ذلك بقدرة العزيز الحكيم.. ولا ينظر إلى الحوادث الحربية والأمنية الماضية لكل بلد على أنها مجرد رصيد تاريخي أُضيف إلى سجل الحوادث بقدر ما هي سجل تزاحمت فيه أسماء ودماء وأرواح وتضحيات المخلصين.. ولهذه الأسباب وغيرها تنظر مدارس الحرب والسياسة العالمية إلى موضوع الشهادة والشهداء على أنه محور مركزي لمن أراد أن يكتشف طبيعة الصراع وما فيه من عِبر ودروس مستفادة عن مقومات ومعطيات وتضحيات وطنية للبقاء والفوز بحياة أكثر كرامة وسعادة وأكثر استقراراً للأجيال القادمة. وفي تعليقه على التجربة السعودية قال المؤلف: (إن من المتعارف عليه أن الحروب والأزمات والمحن التي تتعرض لها أمة من الأمم, تبرز ما ينطوي عليه جنودها ومقاتلوها من فضائل حربية, كالشجاعة, والإقدام, والتضحية بالنفس.. وغيرها, لتلافي ما قد تسفر عنه الحروب والأزمات والمحن من مآسٍ كبيرة وخسائر فادحة, تدفعها الأمة من حريتها واستقلالها وكرامتها وأمنها واستقرارها). أسئلة كثيرة حول موضوع الكتاب عالجها المؤلف بمنهجية أكاديمية وبلغة راقية ومعلومات وافية وتحرير شيق يشدك إلى قراءة الكتاب.. إنه ليس من تلك الكتب الكلاسيكية التي يقول (مارك توين) إن الناس تحرص على اقتنائها وليس بالضرورة قراءتها.. إنه كتاب للاقتناء وللقراءة والإفادة ويُعد مرشداً لمن يهتمون بشئون السياسة والحرب والعمليات الحربية في جوانبها المعنوية وخصوصاً في ظروف الأزمات الأكثر تعقيداً وتحدياً ليتضح من بين الإجابات ما يفيد (بجعل الأمم -حكومات وشعوباً- تكرم قتلاها وتتعهد أسرهم بالرعاية). المؤلف الأستاذ يوسف كامل خطاب باحث في الشئون الإستراتيجية ومحرر أقدم في مجلة كلية الملك خالد العسكرية بالحرس الوطني السعودي له باع طويل تجاوز ربع القرن في نشر وتحرير ومراجعة للدراسات العسكرية والإستراتيجية المعاصرة, ومتخصص ومهتم بالشئون الحربية في الفكر الإسلامي.. وإن كان قدَّم الكثير في مجالات اهتمامه وله كثير من القراء المستفيدين والمتابعين فإن هذا الكتاب جاء تتويجاً لمسيرة موفقة في مجال المذهب العسكري الإسلامي وتطبيقاته على مرّ التاريخ. وفي تصديره للكتاب الذي نشرته دار النحوي بالرياض حديثاً, ذكر المؤلف ما يفيد بأنه تناول (أسئلة طالما تتكرر في أوقات الحروب, وعندما تتعرض دولة من الدول أو شعباً من الشعوب الإسلامية لكوارث جماعية.. تخلف أعداداً كبيرة من القتلى وما يظهر من جدل بين المثقفين والعامة.. مبيناً أن ذلك بسبب قلة المنشور حول هذا الموضوع من حقائق ومعلومات, ولغلبة الجانب العاطفي أو الدعائي على ما يتم طرحه من أقوال وآراء, ولندرة الدراسات والبحوث التي تؤصِّل الموضوع من مصادره الإسلامية). وبحكم متابعتي لموضوع الكتاب أجد أنه عمل غير مسبوق في بيئتنا الأكاديمية، وبالتالي فإنه مكسب وإضافة كبيرة عن شأن لا ينافس في أهميته وحاجته الملحة لما فيه من فوائد جمة في بيئة الأزمات والحروب.. إنه كتاب موسوعة في مجاله حيث جاء في خمسة أبواب رئيسة متوازنة بثلاثة فصول لكل باب.. وقد كان الباب الأول عن الشهادة والشهداء في القرآن الكريم.. وتضمن الباب الخامس نماذج من شهداء عصر النبوة.. وما بين البابين فصول ومباحث قيمة تضمنت أبرز ما يحتاج إليه الباحث في شأن الشهادة والشهداء مع رصد للآيات الكريمة والأحاديث النبوية والآثار الإسلامية في هذا المجال. وفي الكتاب نظرة شمولية عالمية حيث تضمن مباحث عن تكريم الأمم لقتلى الحروب وما فيها من دوافع دينية, وإيديولوجية, ونفعية واجتماعية.. كتاب فيه أمثلة ونماذج وبراهين مؤصَّلة، وفوق ذلك يسهم في تصويب الرؤية في عالم تكثر فيه الضبابية, ويجعلك تزيد احتراماً ومحبة لنهج بلادنا عبر صفحاتها المضيئة في سجل ومفهوم تكريم الشهداء وأسرهم.. كان لمظاهر التكريم السعودية للشهداء نصيب وافر بالأرقام والمعلومات والتحليل الذي شمل الرصيد التاريخي منذ عهد الدولة السعودية الأولى, مروراً بالدرب الذي سار عليه العاهل المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وحتى عهدنا الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله-. [email protected]