الكلمة مسؤولية وعلى الإنسان أن يحافظ على لسانه، ويعوِّده على الكلمة الطيبة النافعة، فهي وحدها التي تثمر في كل وقت خيراً بحيث لا ينقطع نفعها مهما كان الزمان أو الحال أو الشأن، قال الله - تعالى - منبِّها إلى دوام نفع الكلمة الطيبة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} ولا شك أنّ اهتمام الإسلام بآداب التخاطب جعله يحذر من مغبة العنف اللفظي، والأصل في هذا التحذير يعود إلى رفض الإسلام للعنف بجميع أشكاله وألوانه، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنّ الله يحب الرفق في الأمر كله)، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (إنّ الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه، ولا ينزع من شيء إلاّ شانه)، وانطلاقاً من هذه القيمة السامية التي هي الرفق نبذ الإسلام العنف اللفظي، ومنه لعن الآخرين، والسب والشتم، والتعيير، ومع تشعب العلاقات الاجتماعية، وكثرة المشكلات الاقتصادية، كيف نحقق مبدأ حفظ اللسان ومراقبة الكلام، والتعود على التلطف في الألفاظ خلال التعاملات بين أفراد المجتمع المسلم؟ غرس المثل العليا في البداية يقول الشيخ عبد العزيز بن صالح الحميد عضو المحكمة العليا: التقوى لها منزلة عظيمة في السلوك والقول السديد يدخل فيه أمور كثيرة في مقدمة ذلك كلمة التوحيد، ويدخل في ذلك الصدق في القول ويدخل في ذلك الكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة .. ويدخل في ذلك القول اللين وسلامة اللسان من القول البذيء، وليس هناك شيء يأسر القلوب مثل الكلمة الطيبة والبعد عن العنف في القول والفظاظة في الخطاب. نعم ليس هناك أفضل ولا أجل من إشاعة لين الجانب في القول، وذلك لإيصال ما تريد تبليغه للمخاطب، وكم حالت الكلمة الطيبة واللين في الحديث من خصومة بين زوجين، وشقاق بين متخاصمين، وقطيعة بين أخوين ؛ وفي المقابل كم سالت دماء، وقتلت أنفس، وشتتت أسر، وتقاطعت أواصر أرحام، وتأججت خصومات بسبب كلمة نابية وغلظة في القول. وعندما نرجع إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أنه عليه السلام كان بأبي وأمي غاية في جميل القول ولين الجانب، هذا أنس رضي الله عنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما سمع منه عليه السلام كلمة نابية، ويقول لم يقل لما فعلت كذا ولما لم تفعل كذا، والله - جل وعلا - في كتابه يقول لنبيه عليه السلام: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، ويقول عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها لما ردّت على سب اليهود: مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش (البخاري). وفي (موطأ مالك): {إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به ويُعين ما لا يُعين على العنف} وفي صحيح مسلم {ويُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يُعطي على سواه} مما سبق ذكره نخلص إلى أننا في تعاملنا اليومي مع آبائنا وأمهاتنا ومع أبنائنا ومع زوجاتنا ومع جميع من نتعامل معهم نحتاج إلى غرس هذه المفاهيم الأخلاقية وهذه المثل العالية .. فلا يمكن للإنسان أن يرتقي ويعلو شأنه إلا بطيب الكلام والبعد عن الغلظة في القول، كم هو جميل وجميل جداً أن نعقد ندوات ومحاضرات ودورات تدريبية لرفع الوعي بيننا في لين القول، وأن يكون ذلك سائداً في تعاملنا. إن البيت الذي يعلوه الصراخ والسب والشتم سيخرج أجيالاً بنفس التركيبة، وفي المقابل إن الأب الذي يخاطب والديه بأدب ويُحسن القول معهما ومع زوجته ومع أبنائه سيخرج أجيالاً ترث نفس المواصفات، وهكذا مع الخدم وهكذا مع الجار وهكذا في البيع والشراء وهكذا الموظف مع مراجعيه وهكذا وهكذا ... فإلى كل مطلع عليه إشاعة الكلمة الطيبة والقول الحسن لنحارب كل الممارسات التي تشجع على العنف في القول. التعود على احتمال الضغوط ويرى الدكتور صالح بن إبراهيم الصنيع (أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: أن العنف اللفظي سلوك يصدر من الفرد في مواقف رد الفعل على سلوك الآخرين، أو نتيجة تقديره لتصرفاتهم حيال ما قام به من سلوك حركي أو لفظي أو وجداني، ويمكن تقسيم العنف اللفظي إلى ثلاثة أقسام: الأول: عنف لفظي فقط، وهو الذي يصدر من الفرد على شكل كلمات بشكل لا يرتبط معه بدرجة واضحة أشكال أخرى من التعبير، مثل إصدار كلمة سب على سائق سيارة في الطريق نتيجة عدم الرضى عن تصرف قام به. الثاني: عنف لفظي جسدي، وهو الكلمات المصحوبة بتحرك جسدي من قبل الفرد الصادر منه العنف، مثل فرد صدر شتم له من فرد أخرى فيقوم بإصدار الشتائم مع التحرك الجسدي لمهاجمة الطرف الآخر. الثالث: عنف جسدي بدون ألفاظ: وهو إصدار حركات من اليدين أو الرجلين أو أي عضو من أعضاء الجسم بقصد التنقص من الطرف الآخر أو سبه. والفرد عليه أن يحسن التعامل مع الآخرين ويجنب نفسه الوقوع في كافة أنواع العنف عليه أن يحسن التعامل مع الآخرين ويجنب نفسه الوقوع في كافة أنواع العنف اللفظي وغير اللفظي، ولعل من أهم العوامل المؤثرة في هذا ما يلي: - التربية الأسرية: حيث تكون لتربية الوالدين دور كبير في اكتساب الأطفال سلوكيات آبائهم وأمهاتهم، فإن كانوا ممن يستخدمون العنف اللفظي في تعاملهم مع أطفالهم تعود الأطفال على هذا السلوك، وأصبح جزءاً من شخصياتهم في الكبر. - الجو المدرسي: إن كان الجو المدرسي منضبطاً من قِبل المدرسين وإدارة المدرسة في متابعة سلوكيات الطلاب، والمسارعة لمعالجة أو ظواهر لفظية غير مناسبة تظهر بين الطلاب، فهنا يتجنب الطلاب هذه المسالك، وإن كان المعلمون والإدارة لا تعبأ بمثل هذه المتابعة لهذه السلوكيات فتنتشر هذه السلوكيات اللفظية السيئة بين الطلاب، وتعكس على شخصياتهم في المستقبل. - الحي: حيث يكون له أثر كبير في تلقي الأطفال لسلوكيات العنف اللفظي بين الأقرأن في الأحياء السيئة والفقيرة، لذا يلزم الحرص في متابعة الأبناء وفيمن يخالطونهم لتأثيرهم الكبير في سلوكيات وألفاظ الأبناء والقرين بالمقارن يقتدي: ولعل من معالم علاج العنف اللفظي ما يلي: 1) التحذير منذ الصغر للأولاد من السلوكيات اللفظية السيئة (ألفاظ السب والشتم) وهدم السكوت عليه عندما تصدر من الأولاد وإظهار عدم الرضى لسماعها وتحذيرهم من الوقوع فيها مرة أخرى. 2) بيان أن الألفاظ السيئة ليس من خلق المسلم، ولا من الشيم التي جاء الإسلام فيها إلى الدعوة إلى معالي الأمور وتجنب سفاسفها. 3) استخدام الصبر في التعامل مع المواقف الضاغطة وتجنب ردود الفعل السريعة وغير العقلانية، التي تنتج عنف لفظي. 4) اللجوء لذكر الله والاستغفار في موقف التأزم، والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأنه يحض الإنسان للوقوع في الأخطاء والإضرار بالآخرين. 5) تمرين النفس على تحمل الضغوط واحتساب الأجر من الله فيها، لقول الله تعالى {... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ...}(40)سورة الشورى. مستويات متباينة وترى الدكتورة لطيفة بنت عبد العزيز المخضوب الأستاذة بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن: أن من السلوكيات البشرية التي نهى الإسلام عنها منذ أكثر من أربعة عشر قرناً: السب والشتم واللعن والقذف ورمي التهم جزافاً والغيبة والنميمة والسخرية والتهكم والتنابز بالألقاب والبوح بالأسرار ......، وغيرها من الممارسات اللفظية المؤذية للآخر. واليوم في عصر التقدم التكنولوجي تعقد المؤتمرات والندوات وتؤلف الكتب وتتسابق الصحف إلى دراسة ظاهرة (العنف اللفظي) أوالإيذاء بالكلمة، ويهرع المربون والتربويون وعلماء النفس والاجتماع إلى دراسة هذه الظاهرة، والبحث عن بواعثها والتوصل إلى نتائجها السالبة، وما وسائل القضاء عليها، ويستشهد هؤلاء بالدراسات الاجتماعية الغربية التي تابعت هذه الظاهرة وتلمست آثارها السلبية على الفرد والمجتمع، ويخلصون إلى أن للكلمات سهاماً حادة، تنفذ بعنف إلى النفس وتصيبها بجروح نازفة قد لا تبرأ، وإن شفيت فهي تخلف ندوباً لا تختفي، حقاً: (إن جرح الكلام أنكى من جرح الحسام). ومع أهمية هذه الدراسات وعدم إغفالها أو التقليل من قيمتها، إلا أنها غير كافية للحد من هذه الآفة الاجتماعية التي استشرت في المجتمع، بسبب عوامل كثيرة. إن السبيل الوحيد لتجنب العنف اللفظي والجلد بسياط الكلام بكافة أشكاله وألوانه التخلق بالأخلاق الإسلامية السامية التي بيّنها لنا القرآن الكريم، وجسّدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أثنى عليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ... حقيقة إن كلاً منّا يمارس بعضاً من هذا السلوك الخاطئ بمستويات متباينة، وبطرائق تتفاوت حدتها حسب الشخصية أوالموقف، أو بهما معاً، في الأسرة الآباء مع أبنائهم ومع خدمهم، الرئيس مع مرؤوسيه، عند إشارة المرور بين السائقين، في المدارس والجامعات في المستشفيات، في كل مكان يتعامل فيه البشر مع بعضهم ...، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هل يعني هذا أن من يتطاول علينا بالألفاظ المؤذية أو من يمارس علينا العنف اللفظي أن نقابله بالترحاب وندعو له بالصحة والعافية؟، إن حسن التصرف في مثل هذه المواقف وامتصاص غضب الآخر هو المطلب، مع الاحتفاظ بالكرامة وعدم تقبل الإهانة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ففي الحديث الشريف (عن عائشة رضي الله عنها أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك، قال وعليكم، فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف أو الفحش قالت أوَلم تسمع ما قالوا، قال أوَلم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في (ما أحلمك يا رسول الله وما أرفقك، فهؤلاء اليهود الذين أمعنوا في إيذائه بالقول والفعل، حاولوا قتله، وسحروه، ودسوا له السمّ، لم يسبهم ولم يشتمهم، وحاشا أن يكون كذلك فلم يكن صلى الله عليه وسلم فحّاشاً ولا لعّانا ولاسبّابا، ولكنه أيضا لم يقبل إهانتهم فرد عليهم بحكمة وحسن تصرف. قال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، إن اتباع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل اللفظي مع أهل بيته ومع أعدائه ...، كفيلة بالقضاء على ظاهرة (العنف اللفظي) فلم يرفع صوته على خادمه ولم يؤنبه، عن أنس بن مالك قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفاً قط ولا قال لي لشيء لمَ فعلت كذا وهلا فعلت كذا) .. يتجلى لنا في هذا حسن التربية، وحفظ اللسان. ومن يريد معرفة كيفية تربية الأطفال والتعامل معهم لفظياً، فليرجع إلى سيرته مع خادمه أنس بن مالك، فسيجد الدارسون الآثار الإيجابية للرفق واللين في الكلام ونبذ العنف اللفظي مع الطفل الذي يورث شخصية مقهورة ومسحوقة. أما الحوار الذي أصبح وسيلة هامة للتعرف على وجهات النظر المتباينة، من أسباب العنف اللفظي فيه عدم اتقان فن الحوار، فيجب أن نعي جميعاً أن من يختلف معي في الرأي أو المبدأ أو التوجه، هو مقتنع بصواب رأيه ومقتنع بخطئي، كما أنا مقتنع بذلك، لذا عليّ أثناء الحوار حسن انتقاء الألفاظ التي تدعم فكرتي وتدحض رأيه بأسلوب علمي بعيد عن القمع، والإيذاء باللفظ، والتجريح، والاستفزاز والانتقاص من الرأي المضاد، وابتعد عن إثارة المشاعر الحانقة الغاضبة، حتى لا تكون ردة الفعل عنيفة مما يصرف الآخر عن الرد العلمي ويتجه إلى الثأر للذات فيبتعد الحوار عن هدفه ومغزاه. خلاصة القول إن الله أنعم علينا بنعمة النطق والتعبير عن الرضا والسخط، والبوح بالمشاعر والأحاسيس، فشكر هذه النعمة صيانتها وتسخيرها للحق، وتعويد اللسان على حسن القول، ورب كلمة قالت لصاحبها دعني.