فرض الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله من واجبات الدين على الأمة المسلمة، وربط القيام به خيري الدنيا والآخرة، بل جعل تحقيق الخيرية في الأمة بقيام هذه الشعيرة، فلن يجتمع للأمة قوتها وعزتها وشرفها وكرامتها، إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع قيام هذه الدولة بتشكيل لجهاز حكومي مستقل للقيام بتطبيق شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ممثلاً في الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذا لا يعني أن هذا الأمر يقتصر على هذا الجهاز وأعضائه وموظفيه والعاملين في حقل الحسبة، بل إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف واجب على كل مسلم وفق الضوابط الشرعية والأنظمة المرعية. وإذا كان رجال الهيئة يجوبون الشوارع ينبهون الناس لأداء الصلاة والالتزام بأداء العبادات والتمسك بالقيم، ويرشدون ويوجهون وينصحون، ويأمرون بالمعروف، ويحتسبون على من يرتكب خطأ، أو يحاول أن يخل بأمن المجتمع، ومن يريدون إشاعة الفاحشة، فإن الواجب على كل مسلم أن يقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نفسه، فهو المطلع عليها، وأن يقيمها بينه وبين أولاده وعلى من له ولاية عليهم. ومما يؤسف له، أن نجد صوراً من صور ظلم الإنسان لنفسه، بالتهاون في أداء الصلاة في وقتها، حتى وهو في منزله، فيفضل الجلوس أمام التلفاز ومشاهدة ما يغضب الله ويخدش الحياء، وهو يسمع النداء للصلاة، ونرى من يعرض عن إسداء النصيحة لأولاده وهو المنوط برعايتهم، بل نرى من ذهب عنه الحياء ونزع منه الخلق، فيتلصص على الحرمات في الأسواق، أو من يستخدم الهاتف المحمول في إرسال الصور والمقاطع المخلة، أو يدخل عبر غرف الشات ليتحدث مع النساء بما لا يقبله على زوجته أو أمه أو أخته. وهذه صور من صور المنكر وغيرها، نتجت عن ضعف الإيمان وعدم الثقة بالنفس، مما يدفع المرء لارتكاب هذه الأخطاء وهو يعلم أن الله يراه ومطلع عليه. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه المرحلة: كيف نفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذواتنا؟! كيف نقاوم أي تأثير خفي على أنفسنا في هذا الخضم الذي يستهدف الدين والقيم والعادات والأخلاق والتقاليد؟! وإننا إذ نطرح هذه القضية المهمة (تفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذواتنا..) لنؤكد أهمية دور كل مسلم في الإصلاح والتوجيه، فالمسلم قدوة لغيره وشعار لدينه وأخلاقه، ونحذر في الوقت نفسه من خطورة ترك الأمر بالمعروف في ذاته ونفسه وتقاعسه عن أداء هذه الشعيرة في حق نفسه، يعد تقصيراً في حقوق الآخرين. طاعة الله يحسن بنا في هذا الموضع أن نتطرق إلى تعريف موجز للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليدرك كل منا ماذا يعني هذا المصطلح لغة واصطلاحاً، وأهميته في إقامة شعائر الدين والحفاظ على أمن واستقرار وتماسك المجتمع المسلم. فالمعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع، فالمعروف، كما قال بعض العلماء كل ما أمر الله به شرعاً كالصلوات الخمس في أوقاتها، والصدقات المشروعة، والصوم المشروع، وحج البيت، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره. أما المنكر: فهو خلاف المعروف، ومادة (نكر) تدل على الجهل والقبح والنفور وكراهية النفس. و(المنكر) اصطلاحاً: هو ما أنكره المولى عز وجل ورآه أهل الإيمان قبيحاً، لذلك سميت معصية الله عز وجل منكراً. كل مسلم ولكن هل يقتصر دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وفي ذلك يقول الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقتصراً على رجال الحسبة، بل يعم كل قادر على الأمر والنهي، فإن النصوص باقية على عمومها، وكل من رأى منكراً فعليه تغييره، والنهي عنه، أو رأى من ترك المعروف وهو من أهله، فعليه أن يأمره به ويحرص على الإلزام به بقدر الاستطاعة، ولا يجوز ترك ذلك مع القدرة، لأنه يؤدي إلى إقرار المعاصي. وقال فضيلته لا شك أن رجال الحسبة عليهم التكليف أشد، لأنهم عينوا أو وظفوا لذلك، فأصبح الأمر والنهي في حقهم واجباً عينياً بحسب ما أعطوا من الصلاحيات، فعليهم أن يقوموا بذلك بقدر الاستطاعة، وأن يفرغوا لذلك أوقاتهم، وأن يتابعوا العصاة ويتتبعوا أخبارهم ليقضوا على أوكار الفساد ويحاربوا الشرور قبل أن تستفحل ويصعب تلافيها. وأضاف فضيلته ولكننا نعلم أنهم أفراد معدودون، وإمكانياتهم محدودة وأوقاتهم مشغولة، وليس في إمكانهم القضاء على جميع المنكرات، ولا يصل إليهم العلم بجميع ما يحصل في البلاد لاتساعها وتباعد أطرافها، فهم يغطون جزءاً من البلاد، ويبقى الكثير لا يصلون إليه إلا نادراً، فما لم يصلوا إليه أو قصرت عنه معلوماتهم أو إمكانياتهم فهذا الجزء البعيد عنهم يكلف به بقية المواطنين من أهله، أو ممن يعرف عنه شيئاً، فيلزم من عرفه أن يغير منه ما يقدر عليه، وأن يأمر الناس وينهاهم ويبين لهم ويدعوهم إلى الخير، فإن أعجزه ذلك استعان بإخوانه وأعوانه وجيرانه من أهل الخير من باب التعاون على البر والتقوى، أو رفع الأمر إلى أهل الحسبة، وإذا استمر المنكر كفتح المتاجر وقت الصلاة وتأخر بعض الأفراد عن جماعات المسلمين ونحو ذلك. وأردف فضيلته: إن على كل مسلم أن يقيم هذه الشعيرة في ذاته، ومتى عرف المسلم المنكر واتضح أنه منكر وحرام، فإن عليه أن يقوم بإنكاره حسب طاقته أي بيده، وإن عجز فبلسانه، فإن عجز فبقلبه. ومعلوم أن المنكرات الظاهرة يعرف حكمها الخاص والعام، والعالم والجاهل، كترك الصلوات والتخلف عن المساجد، والأكل في نهار رمضان وتعاطي المسكرات، والقتل والنهب، والاغتصاب والزنا ونحو ذلك، فكل من رأى منكراً وعرف أنه حرام وجب عليه أن ينكره، وبحسب المراتب المذكورة في الحديث. ويكفي أن يقول: إن هذا حرام ولا يجوز لك، وسواء قدر على البيان وإيضاح المعنى أو لم يقدر. وأردف فضيلته: ومتى ما عرف أن صاحب المنكر من المعاندين المصرين عليه، وأنه قد نصح ولم يقبل، وأنه قد أعلن المنكر، وأن الناس يرونه ولم يسكتوا كلهم، بل إن تكرر عليه النصح ولم يقبل، جاز له أن ينكر بقلبه مع مفارقة العصاة والبعد عنهم. فضائل الأمر بالمعروف ويحدد الشيخ الجبرين فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: أولاً: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمكن الدين ويعم الصلاح، قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} ثانياً: في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسباب النصر على الأعداء: قال تعالى {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ثالثاً: وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحصل الأمن من الفتنة والهلاك العام، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعاً وقال: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليه فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة...) إلى آخر الحديث. رابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الخطايا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، يكفرها: الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). خامساً: وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثواب كبير مما يزحزح الله القائم به عن النار، قال -صلى الله عليه وسلم-: إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظماً من طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد الستين والثلاثمائة فإنه يمسي يومئذ، وقد زحزح نفسه عن النار). سادساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الظفر بعظيم الأجور: قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب التوفيق للدعاء والإجابة: قال - صلى الله عليه وسلم- (امروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم). ثامناً: في القيام بالمعروف والنهي عن المنكر رفع الحرج عن المتخلفين الضعفاء: قال تعالى: ليس من الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرجا إذا نصحوا لله ورسوله). تاسعاً: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين: قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). عاشراً: البشارة لمن قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. حادي عشر: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لرفع العذاب: قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ثاني عشر: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجلب رحمة الله، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أسباب خطيرة!! أما الدكتور محمد بن يحيى النجيمي رئيس قسم الدراسات المدنية في كلية الملك فهد الأمنية والخبير في المجمع الفقهي الإسلامي الدولي في مكةالمكرمة، فحدد أسباب ضعف الأمر بالمعروف في ذواتنا في ضعف الإيمان، والتكاسل عن أداء العبادات في أوقاتها وفي المسجد، وترك مجالس العلم والذكر، والانصراف إلى ملهيات الدنيا. وحمل الدكتور النجيمي وسائل الإعلام خاصة والفضائيات الدور الأكبر في إلهاء الناس وصرفهم عن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذواتنا. مؤكداً أن ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نفس وذات المسلم سبب الوهن والضعف والإعراض عن الخير، والجري وراء الملذات وارتكاب المحرمات، والخوض في الأعراض والفساد الدنيوي. وحدد الدكتور النجيمي سبب ضعف الأمر بالمعروف عند الناس في ضعف الوازع الديني لدى شريحة من الناس، كثرة الفضائيات وما تبثه من برامج ضد الأخلاق والفضيلة، وكثرة سفر العائلات إلى الخارج خاصة إلى بلدان غير إسلامية. ويقول الدكتور النجيمي: إن القرآن أمرنا أن نقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصفة عامة وخاصة، وإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه وهذا أضعف الإيمان (كما جاء في الحديث)، والتغيير باليد يكون للحاكم أو الجهة المنوطة بذلك التي أناطها الحاكم بالمسؤولية، إلا أن الإنسان في بيته وفي نفسه، له سلطة التغيير على من هم تحت ولايته، فيستطيع أن يمنع أولاده من ارتكاب الأخطاء أو الوقوع في المنكرات، كما يستطيع أن ينصحهم بلسانه، وأن يبين لهم، ولو صلحت ذواتنا وأقمنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أنفسنا وفي بيوتنا لصلحت مجتمعاتنا، وقد بين علماء التربية أن الطفل يكتسب80% في المئة من المهارات في المنزل، فإذا فعلنا ذلك فإننا سنعين رجال الهيئة في أداء رسالتهم. وطالب الدكتور النجيمي بأن يعمل كل منا جاهداً لتربية نفسه، والالتزام بالعبادات والتخلص من العيوب والسلبيات وحالة الضعف التي تعتريه. وأشار د. النجيمي إلى إعانة رجال الهيئة في التخلص من صور المنكرات بالآتي: أولاً: الدعاء لرجال الهيئة بالتوفيق والسداد. ثانياً: إصلاح النفس والذات والبيوت وبخاصة النساء. ثالثاً: أن نذب عن رجال الهيئة وندافع عنهم عندما نسمع من يحاول النيل منهم. هذا ولطرحنا بقية نتابعها في الأسبوع القادم.