حاول أن تنجز معاملة في وزارة أو إدارة حكومية في أية دولة عربية، ثم انتقل إلى دولة أجنبية وقارن..! سوف ترى أن هناك هدراً كبيراً في وقتك وفي وقت الدولة من أجل إنهاء إجراءات اعتيادية هدفها خدمتك وحمايتك. * شارك في اجتماع لمجلس إدارة بدائرة حكومية أو لشركة عربية ثم انتقل إلى اجتماع آخر في شركة أجنبية؛ سوف تشعر بأن الاجتماع الأول - العربي- كان عامل عرقلة بالرغم من طوله أكثر منه إنجازاً، في حين تشعر أن الثاني كان يجسد بالفعل علاجات سريعة وحاسمة في تقويم المؤسسة وتطويرها. * جازف بأن تفكر في أن تنشئ جمعية تعاونية خيرية، أو شركة تجارية استثمارية، وانظركم من الوقت تحتاج لكي تنهي الأوراق والإجراءات الرسمية! ثم جرب أن تقوم بالإجراء نفسه في دولة أجنبية. لا شك أنك ستشعر بالحزن؛ لأنك عندها تدرك كم من الثقة ينعم بها المواطن والمقيم في الدول المتقدمة، وكم من أصابع الاتهام تصوب نحو من يسعى إلى عمل خيري أو تجاري في العالم العربي. * جرب أن تحظى بفرصة للاطلاع على تاريخ انبثاق الفكرة في العديد من القرارات الكبرى التي تقرّها مجالس الشورى في العالم العربي، وقارنها بنظيراتها في مجالس البرلمانات في أوربا وأمريكا؛ سوف تحتاط مستقبلاً بمدة لا تقل عن ثلاث سنوات لتقديم مشروعات تطويرية وطنية تستلزم قرارات عامة في دولة عربية. * استمتع بوقتك في حضور درس للعلوم الطبيعية في المرحلة الابتدائية في دولة متقدمة تربوياً، ثم انطلق لتحضر الدرس عينه في دولة عربية، سوف تدرك دون عناء أسباب قلة الإبداع وندرة المبدعين في العالم العربي. تلك أمثلة بسيطة، ليس الهدف منها جلد الذات أو تعظيم الآخر بقدر ما هي حقائق نعيشها، ومؤشرات لما ينبغي أن نسعى لتقويم ما اعوج لدينا من أفكار ومناهج، وأن نستفيد مما لدى غيرنا من رؤى إبداعات، والهدف الأساس من الأمثلة السابقة هو تجسيد مفهوم حيوي رئيس قد يغيب عن كثير من الناس وهو (الإنجازية)، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. فقوة المجتمع وتطوره لا تقاس بعدد التطلعات والتصريحات لفئة معينة من المجتمع، أو بعدد من المنجزات النوعية لأفراد نادرين مبدعين في الأمة، وإنما المقياس الحقيقي والمعيار الصادق هو مقدار الإنجازية التي يحظي بها المجتمع بكامله. هذه الإنجازية يمكن رؤيتها في كل مجال وفي كل سلوك وفي كل منتج، هذه الإنجازية تظهر بوضوح في كل حركة أو سكنة للمجتمع، فالنبض اليومي للحياة العامة يوحي بأن المجتمع يسير إلى الأمام، فالمؤسسات العامة والخاصة تنجز مهامها بفعالية وفق جدول زمني محدد، والفرد يدرك أهمية تأدية عمله بكفاءة ومسؤولية، بل إن ثقافة المجتمع تستحث الأفراد والمؤسسات على استثمار القدرات والطاقات والأوقات بأفضل صورة ممكنة للإنجاز والإبداع والارتقاء، وبالتالي فالمجتمع يسير بقوة نحو مزيد من التطوير والتنمية. وفي عالمنا العربي تشير الدراسات إلى أن إنجازية الموظف العربي خلال الدوام هي من أقل النسب الإنجازية في العالم، حيث لا يستثمر الموظف العربي ما نسبته 5% ومن وقت الدوام اليومي، وليس معنى هذا أن جميع الموظفين ليسوا منجزين، لكن حسب الرؤية الاقتصادية فإن ذلك يمثل ما تنجزه مؤسسات الدولة مقسوما على عدد موظفيها، ولمزيد من الإيضاح فإن عدداً من الدول العربية تنظر إلى أن الوظيفة أحد الحلول لمشكلة البطالة، ووفقاً لهذا المنظور فإن الوظيفة ما هي إلاّ ضمان اجتماعي أكثر منها استثمار تنموي، والموظف لا يسأل عن مدى انجازيته اليومية أو الأسبوعية ولا تتم له محاسبية دورية جادة، وبالتالي فإن النتيجة المتوقعة بطالة مقنعة، وعرقلة لإنجاز المؤسسة. وينبغي التأكيد على أن مفهوم الإنجازية منفك عن مفهوم العمل فليس كل عامل منجز. ويطرد هذا المعنى في كثير من جوانب الحياة؛ إذ لا تنجز شغلاً بالمعنى العلمي إلا إذا أحدثت إزاحة في الجسم الذي تؤثر بقوة (تعمل) عليه، وما لم يتحرك هذا الجسم فإن الشغل الناتج صفر حتى لو أثرت بالقوة مدى حياتك. وينسحب ذلك على كل أعمال الدين؛ إذ يشير الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى بقوله: رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب، ونسأل الله ألا يجعلنا من العاملين غير المنجزين. وعندما يغيب مفهوم الإنجازية في المجتمع، وعندما لا يكون للفرد ولا للوقت قيمة، وعندما تغلب النزعة الفردية على الممارسات الإدارية، وعندما ينهك المواطن في ملاحقة أوراقه في الدوائر الحكومية على حساب الآخرين، وعندما تغيب المعيارية المنهجية في الإدارة والاقتصاد فإن الإنجازية الفردية تنحرف نحو المسار السلبي لتصبح إحدى معوقات تنمية المجتمع وتطويره، وبالتالي فإن المحصلة النهائية أفرادٌ قلائل يرتقون ومجتمعٌ بكامله يتأخر. إن نظرة تحليلية لواقع بعض الدول العربية بالأمس واليوم تكشف لنا مقدار تأثير ضعف الإنجازية في تطوير وتنمية المجتمع، مقارنة ساذجة بين اليابان ومصر وبين كوريا الجنوبية وسوريا العربية في الأمس واليوم تظهر أن النتيجة (محزنة)، بالرغم من أن هذه الدول انطلقت من بدايات متشابهة، كما أن النهضة التي تعيشها بعض الدول العربية كدول الخليج لا تتناسب والإمكانات التي تمتلكها هذه الدول، فعندما تمتلك إمكانات وقدرات هائلة ثم تستفيد فقط من 10% من هذه الإمكانات فأنت غير منجز ولو بدا للآخرين أنك تغيرت، وإذا كنت تسير بسرعة 50كم-س والقافلة تسير بسرعة 150كم-س فأنت تتأخر عن الركب ولو بدا لك أنك تتقدم، إن الإنجاز الحقيقي يقاس بمعيار التوظيف الأمثل للإمكانات البشرية والمادية في تحقيق الأهداف، والارتقاء بمستوى الوعي لتحويل المجتمع من مجتمع مستهلك إلى مجتمع منجز ينمو بتسارع مطرد ويسبق حركة التطوير العالمية. إننا بحاجة إلى إعادة النظر في ثقافة العمل والإنجاز في مجتمعاتنا، وينبغي أن تنطلق حركة التصحيح والتطوير من القمة والقاعدة، من المنزل والمدرسة، من المؤسسة والسوق لا بد من تقديس الوقت، لا بد من احترام العمل وإتقانه، ولا بد من التعامل بالثقة على مستوى الفرد والأمة، ولا بد من التقويم والمحاسبية وفق معيارية صادقة، هذه مؤشرات حاسمة وغيرها كثير قد تسهم في تحقيق المفهوم الحقيقي للمجتمع المنجز، فهل نحن مجتمع منجز...؟، وهل نحن أفرادٌ منجزون..؟ [email protected]