تتزايد الأصوات الواعية المحذرة من داء بدأ يستشري في أوساط العامة في مجتمعنا السعودي خصوصاً والخليجي عموماً، وهو داء إحياء النعرات القبلية من خلال قنوات الفكر العامي، ومواقع الإنترنت القبلية غير المسؤولة. نعم، لقد تكاثرت الأصوات المستاءة مما وصل إليه الحال بهذا الخصوص، بعد أن اتضحت بوادر التعصب البغيض وتداعياته سواء كان قبلياً أو إقليمياً أو مذهبياً أو فكرياً.. لقد أطلت على مجتمعنا بوادر التعصب واقتحمت بيوتنا ومدارسنا رياح التفاخر عبر تلك النافذتين الإعلاميتين اللتين أسيء استخدامهما بشكل مؤسف.. فهذه القنوات، وتلك المواقع التي كان من المفترض أن تخدم المجتمع بتعميق انتمائه الوطني، وترفع مستوى وعيه الثقافي؛ وإذا بها تنبش الوجه القبيح من الحياة الماضية، وتغرس في نفوس البسطاء وصغار السن عنتريات التفاخر القبلي، وتستثير حزازات الجاهلية الثانية، وتقدم شعراء المفاخرات، وتستبعد العلماء والمفكرين، لتفتح ساحتها للمراهقين وأصحاب الأسماء المستعارة، ليتباروا في تشويه وجه المجتمع من خلال رسائل الفخر بالذات، والطعن بالآخر.. تذكرت هذا وأنا أقرأ بكل ألم تصريحاً مهماً لمسؤول له مكانته الوظيفية، وهو سعادة د. عبدالرحمن عسيري المشرف على كرسي الأمير نايف لدراسات الوحدة الوطنية، المنشور في الصفحة الأخيرة من جريدة عكاظ يوم السبت 28 - 12 - 1429ه الذي حذر خلاله من وجود ما يقارب 3000 موقع إلكتروني قبلي تبث الفرقة الوطنية، وتشعل الطائفية العرقية والقبلية، مما جعل تلك المواقع تحتل المرتبة الأولى على رأس قائمة مهددات الوحدة الوطنية في بلادنا، وقد أوضح د. عسيري أن من أبرز المآخذ على تلك المواقع إثارتها للنعرات القبلية من خلال إيرادها لأخبار سابقة، وسرد وقائعها من باب المفاخرة والاعتزاز، لا من باب القراءة التاريخية الرصينة التي تستخلص العبر من التجارب السابقة لتنير الطريق للأجيال المعاصرة والقادمة على أساس ديني وطني، لا على أساس قبلي أو عرقي ضيق. وقد يتساءل المرء: وهل في المملكة ثلاثة آلاف قبيلة؟ فأقول: إن القبيلة الواحدة قد تقسمت في هذه المواقع إلى قبائل وعشائر وأفخاذ، والأفخاذ إلى أسر.. بل إن القبيلة الواحدة أو الأسرة الواحدة قد أصبح لها أكثر من موقع، متباينة المشارب والاتجاهات، وكل موقع يسمي نفسه الموقع الرسمي لقبيلة كذا.. إن هذه المواقع لا تهدد وحدة الوطن فقط؛ بل إن بعضها يؤدي إلى شرذمة القبيلة أو الأسرة نفسها، من خلال سعي كل موقع إلى احتكار الأمجاد والبطولات والزعامات الفارغة، مما يؤدي إلى التنابز والتنافر. إن الخطر لا يكمن في نشر أخبار تلك المعارك الغوغائية أو الزعامات الجوفاء فقط، وإنما بإيرادها بروايات ذاتية لا تعي متطلبات البحث التاريخي الموضوعي، ولا تدرك معنى الحيادية؛ فلا تتورع عن المبالغة في تصوير البطولات وتفخيم الزعامات والمشيخات، أو ترويج النقائص في الخصوم، ولا تعرف شيئاً اسمه التحقيق، ولا تأبه بمسألة التثبت من صحة الخبر وتفصيلاته، فضلاً عن دعوتها الصريحة إلى التغني بتلك البطولات الوهمية؛ بدلاً من التحذير منها، والدعوة إلى أخذ العبرة حتى لا تعود بنا الأمور إلى ذلك الزمن الرديء، لا قدر الله. ولا يفوتني هنا أن أشكر كل من أسهم في نقد هذه الظاهرة، ورفع صوت الحق، وأخص الشيخ بدر الضيط الذي شخص الداء ووصف الدواء، في مقابلة سابقة له في هذه الجريدة، طالب فيها ملاك تلك القنوات والمشرفين على القنوات الفضائية والمواقع الإنترنتية أن يراعوا الله في وحدة أمتهم ووطنهم، وأن يرتقوا إلى مستوى الأمانة والمسؤولية، وأن يضعوا مراقبين ومحررين مؤهلين، وأن لا ينساقوا وراء الأهداف الشخصية أو المكاسب الربحية على حساب مصلحة أمتهم ووحدتها التي رسخها موحد البلاد، وانتشلها بتوفيق الله من حياة الضياع والفرقة إلى حياة الوحدة والبناء. وختاماً، فإن الوقت قد حان ليهب المخلصون من أبناء الوطن هبة واحدة لوقف هذا الداء الذي تزداد خطورته ويستفحل أثره يوماً بعد يوم!